تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : نوادر الأصول فى أحاديث الرسول |
فإنما قست قلوبهم بالتباعد من الله من أجل نقض الميثاق وذلك لما قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يدخل الجنة إلا رحيم قالوا يا رسول الله كلنا يرحم قال ليس رحمة أحدكم خويصته يعني أهله وولده ولكن حتى يرحم العامة فرحمتك الخويصة هي رحمة العطف من الرحمة المقسومة بين خلقه ورحمتك العامة من رحمة المعرفة بالله تعالى
الأصل الحادي والسبعون والمائتان
في جمع الهموم وتشعبها
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت نبيكم {صلى الله عليه وسلم} يقول من جعل الهموم هما واحدا كفاه الله هم آخرته ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها وقع
قال أبو عبد الله رضي عنه الله فالهم للقلب وهو أمير الجسد وهو وعاء كنوز المعرفة ومنها يفرق على جنده فالعقل والحفظ والذهن والفهم والفطنة والروح هؤلاء كلهم مرتزقة من عند القلب والقلب ينفق عليهم من كنزه الذي أعطي وهو المعرفة بالله تعالى والعلم به فإذا جاءته هموم أحوال النفس فقد تشعب قلبه شعبا وشغل القلب بشعبها فضيع الكنز وفرق الجند وبقي مأسورا في يدي النفس وأحوالها فلم يبال الله في أي أوديتها من تلك الشعوب هلك لأن هموم
النفس ووساوس العدو تخوفك بالرزق وتخوفك بأحوال الدنيا وتقلبها وترغبك في الجمع والمنع وتحل في قلبك ما فيه مصرعك وهلاكك وتزين لك أحوال الدنيا فهذه كلها سموم قاتلة للقلب فمن تخلى من هذه الهموم كلها حتى صارت همومه كلها هما واحدا كفاه الله الهموم من أمر الدنيا والآخرة والهم دبيب القلب وهو على وجهين أحدهما هم دبيب وهو متجاوز عنه والآخر هم حلول
فالقلب إذا بدت له خاطرة دب إليها ثم يبقى في الطريق متحيرا عاجزا قد انسد عليه الطريق فهذا هم يتجاوز عنه والهم الآخر يدب القلب بالخاطرة إلى الشيء الذي بدأ حتى ينتهي منتهاه فيحل به فحلوله عزم وإضمار فإن كانت سيئة صار قد هم بسيئة فهي وإن لم تكتب عليه قد انحط عن درجته لأنه قد عزم على معصية فهذا هم حلول القلب وإنما يصير همه هما واحدا إذا نسي نفسه وأحوالها وهو أن ينكشف له الغطاء عن المعرفة بالله تعالى حتى يرى الله كافيا له في كل أمر من دنيا وآخرة فعندها يرفع باله عن التدبير لنفسه ويلقي ذلك كله إلى الله تعالى تفويضا ويراقب ماذا يخرج له من تدبيره ساعة فساعة
فتدبير الله تعالى للمؤمن أعلى من تدبيره لنفسه فإذا رفض العبد تدبيره وأقبل على محافظة تدبير الله في كل وقت ماذا يظهر له فقد استراح فإنما همه في كل ساعة التوخي لمحاب الله في كل أمر من متقلبه فإنه إنما خلقه عبدا ليكون له عبدا عارفا له عالما به فينظر بعين المعرفة والعلم إلى عظمته وجلاله وبهائه وكبريائه وسلطانه ورحمته وإلى ملكه وتدبيره فيقر عينه ويمتلئ قلبه فرحا به فعندها تظهر محبته على قلبه ويشتاق إلى لقائه ويتبرم بحياته ويقلق بمكانه ينتظر متى يدعى فيجيب فهو مسجون برمق الحياة ولذلك قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الدنيا سجن المؤمن وسنته
فالآدمي إذا أسنت ضاقت عليه المعيشة واشتد العيش فهو ينتظر الخصب والسعة والمسجون وإن أحاطت به نعم الدنيا في سجنه فعينه شاخصة إلى باب السجن متى يخلى عنه فيخرج عنه فالمؤمن اشتاق إلى لقاء من عرفه بما ذكرنا فضاق بالحياة في الدنيا وانتظر الدعوة فهمه في الدنيا هم واحد وهو أن يلتمس محاب الله في كل أمر دق أو جل فيكون ظاهر أمره حركات في طاعة الله وباطن تلك الحركات حب الله تعالى به يغلي قلبه فهو الذي جعل همه هما واحدا وانقطع من الخلق إلى الله تعالى فمن العباد يصعد إلى الله أعمال الجوارح ومن هذا أنوار الحب مع كل نفس فنور هذا متواتر صاعد إلى السماء وأنوار العمال منقطعة قال الله تبارك وتعالى {صلى الله عليه وسلم} واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا
فاسم الرب هو الاسم الأعظم المكنون الذي منه خرجت الأسماء فمن وصل إلى ذلك الاسم المكنون وانكشف له الغطا عنه فقد تبتل إليه وانقطع عن الخلق واتخذه وكيلا فعندها بطلت وكالة النفس وتعطلت الهموم وانتصب ذلك الهم الواحد بين عيني فؤاده فاستكمل الصدر نورا فتتابعت أنوار حبه متواترة إلى العلى
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من
انقطع إلى الله كفاه الله مؤنته ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن لله ملائكة موكلين بأرزاق بني آدم ثم قال لهم أيما عبد وجدتموه جعل الهم هما واحدا فضمنوا رزقه السموات والأرض والطير وبني آدم وأيما عبد وجدتموه طلبه فإن تحرى العدل فطيبوا له ويسروا وإن تعدى إلى غير ذلك فخلوا بينه وبين ما يريد ثم لا ينال فوق الدرجة التي كتبتها له
الأصل الثاني والسبعون والمائتان
في الاعتزاز بالعبد
عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول من اعتز بالعبيد أذله الله
الاعتزاز بالعبيد مفتاحه حب العز وطلبه فإذا طلب العز للدنيا طلبه من العبيد فترك العمل بالحق والقول بالحق لينال ذلك العز فعاقبة أمره الذلة فإن الله تعالى يمهل المخذول حتى ينتهي به خذلانه إلى أن يستحق لباس الذل وإن الله تعالى أظهر عزه وأخرج إلى العباد إزار العز ليجعل لهم من ذلك حظا فإنما سماه إزارا ليعقل العباد عنه أن هذه قوة أخرجها إلى العباد ليقووا به على الأعداء وليقوى به المحق على المبطل والأزر هو القوة وذلك قوله تعالى كزرع أخرج شطأه فآزره أي قواه
والإرز موضعه من الآدميين من الوسط يتزرون على أوساطهم ليقووا
ولذلك سمي إزارا لأنه قوة المرء فمن أسلم وجهه لله أوجب له حظا من ذلك العز ومن أعرض عنه فأشرك به غيره في ملكه حرمه عزه ومن احتظى بذلك العز فقد تزكى والزكاء النماء والاحتشاء والاكتناز فالمؤمن زكي محتش مكتنز والكافر خال خاو رخو ضعيف
فمن ازداد لله تسليما وإليه طمأنينة في الأحوال كلها ازداد نموا واحتشاء واكتنازا قال الله تعالى قد أفلح من تزكى وقال تعالى ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وقال تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء فمن تزكى فبفضله ورحمته تزكى وهو نور التوحيد
ثم قواه حتى ربي ذلك النور بالشكر واستوجب المزيد وقال تعالى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى وقال تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
فقوى رسوله والمؤمنين بتلك العزة التي أخرجها من عزه وسماه عزة وسماه إزارا ليعلم العباد أنها قوة لهم كل يحتظي منه على قدر بذل نفسه لله في الائتمار بما يأمره ووضع له نفسه بالأرض ذلة وخشوعا في الانتهاء عما نهوا عنه وترك مشيئآته في أحواله كلها لمشيئته فعلى قدر ذلك يستوجب الحظ من تلك العزة فذلك قوله تعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
الأصل الثالث والسبعون والمائتان
في من يقص وتحقيق القصص
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مرائي
القصص اسم جامع دخلت فيه الموعظة والتذكرة والدعوة إلى الله والنشر عن الله مننه وإحسانه ثم سمي ذلك قصصا من أجل أن قلب هذا يقتص أثرا لكل شيء ويشير بقلبه إلى شيء ثم يعبر إشارات قلبه بلسانه للخلق فهو قاص عليهم لتلك الأشياء أثرا أثرا فهذه كلمات لزمت أشياء كثيرة مما تشابهت صورها بعضها ببعض فيقال قص أثره وهو أن يتبع أثره ويقال قص خبره وهو أن يتبع بقلبه صفة ذلك الشيء الذي يخبر به فيتبع الصفة شيئا بعد شيء ويقال قص شعره وظفره وهو أن يتبع بما زاد من شعره وظفره خروجا من جسده فيتبع ذلك فأزاله عنه
فالدعاء إلى الله بالموعظة والتذكرة لمن وصل إلى الله قلبا وكان
مركز قلبه الحق والعدل وهو قوله تعالى ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
فقوم موسى عليه السلام أعطوا ذلك في عزلة من الخلق من ورائهم الرمل من ناحية المشرق حيث لا يخلص إليهم أحد ولقيهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليلة أسري به فعلمهم القرآن وعرض عليهم الشريعة فقبلوها فأعطيت هذه الأمة في الجماعة والعامة ما أعطي أولئك في العزلة فساروا في الجماعة بما سار أولئك في العزلة بفضل يقينهم ووصول قلوبهم إلى الله فمركب قلوبهم الحق وطريقهم إلى الله على العدل في ذلك الحق وهم أمراء الدين في كل وقت وهو قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
فالقصص لهم ولمن يرونه أهلا لذلك المقام والثالث مرائي متكلف مذموم فهو دخيل لا يجب أن يسمع منه
الأصل الرابع والسبعون والمائتان
في محبة الأسباب ومعرفة الشرك والتوحيد فيها
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الشرك أخفى على أمتي من دبيب الذر على الصفا
عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال قال أبو بكر رضي الله عنه وشهد به على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ذكر الشرك فقال هو أخفى فيكم من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلت أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك فيما أعلم وأستغفرك لما لا أعلم تقولها ثلاث مرات
عن ابن جريج قال بلغني أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لأبي بكر الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل فقال أبو بكر هل الشرك إلا ما عبد من دون
الله قال يا أبا بكر الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل إن من الشرك أن يقول الرجل ما شاء الله وشئت ومن الند أن يقول الرجل لولا فلان لقتلني فلان أفلا أدلك على ما يذهب الله عنك به صغار الشرك وكباره قال بلى يا رسول الله قال تقول كل يوم ثلاث مرات اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم
عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد كنت أكره لكم أن تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم ما شاء محمد
قال أبو عبد الله الرب واحد وجعل ربوبيته في الغيب وخلق العباد في الغيب وأوله قلوبهم إليه فأقر كلهم بالعبودة له وعلى ذلك فطرهم فكلهم يفزعون عند الحاجة إلى اسمه الله الذي جعل موله قلوبهم فثبت فريق منهم على إخلاصه وأشرك فريق وذلك قوله تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون
فجعل أمور العباد كلها يوصلها إليهم في الغيب قد ستر أموره بالأسباب فقال أنا الرزاق ثم جعل أرزاقهم في ماء الحيوان تحت العرش ثم وكل ملائكته بالقطر ثم السحاب لقبوله وسخر الرياح لتحمل كثيف السحاب ركاما ويبسط كيف يشاء ثم أمر السحاب أن يدر القطر مطرا ثم أمر الأرض أن تقبل ودائع القطر ثم أمرها أن تنفجر
عن ذلك القطر في أصلب موضع منها من أجواف الصخور من الجبال وذلك قوله تعالى أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض وقوله تعالى وفجرنا فيها من العيون
ثم على الآدميين أن يحرثوا الأرض ثم أمر الأرض أن تنبت من كل زوج بهيج وقال تعالى أفرأيتم ما تحرثون ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون
ثم أمر الشمس أن تسير بحرها على وجه الأرض لتربية هذه الثمار والنبات ثم أمر الريح عند الحصاد أن تذروه ثم على الآدميين طحنه وخبزه وأنزل النار وجعلها في الشجر الأخضر وقال في تنزيله هو الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا
فالنار موجودة في كل شجرة خشبة تحتك بالأخرى فتوري نارا وقال أفرأيتم النار التي تورون ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين
ومن اللباس غزل قطنه ونسجه وغسله وخياطته حتى يكتسوا وكذلك سائر الأشياء التي أضطر إليها الآدمي فهذه كلها أسباب والآدمي يرى ما ظهر من هذه الأشياء التي ذكرنا وفي باطنها ربوبيته وهو الذي دبر هذا كله من القدرة وأمضى التدبير بمشيئته وأوصل إلى العباد قضيته في خفاء والعباد إنما يرون المطر والحر والبرد والرياح والأرض والماء والزرع والحصاد والأيدي التي تتداوله وربوبيته في
جميع الأشياء قائمة لا يكون شيء إلا بإذنه ولا يقوم إلا به ولا يدوم إلا به فقلوب الآدميين ونفوسهم معلقة بالأسباب التي يرونها فإذا احتاجوا إلى شيء طلبوا ذلك الشيء من مظانه الذي هناك عاينوه فمن الله على الموحدين بمعرفتهم أن الرب واحد والوله بالقلوب في الحوائج إلى الواحد الذي اسمه الله الذي خرجت الأشياء من ذلك الاسم
ولذلك أمروا أن يبدأوا في كل أمر بقول بسم الله كأنه يقول هذا الشيء بهذا الاسم خرج ومن حرم المنة بقي مع الأسباب قلوبهم معلقة بها مفتونة فيها فاتخذوا دونه أولياء فعبدوه ثم قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وقالت الرسل لهم أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا حتى قال إبراهيم عليه السلام أف لكم ولما تعبدون من دون الله والأف كلمة للشتم والصنعة
وأنزل على المؤمنين وحيا يثبت قلوبهم ويعلمهم الحجة فقال وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم فقال المشركون أرنا آية فأنزل الله تعالى إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله لآيات لقوم يعقلون
فأعلم أن العقل يدل عليه فيما أراهم من قدرته وقال ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون
وأهل اليقين طلبوا الأشياء من المظان نفسا وجسدا ومن الله قلبا ويقينا وإخلاصا قمن ضعف يقينه كان السبب بين عينيه فإذا طلب شيئا طلبه من السبب قلبا ونفسا وإذا فاته منها شيء تلهف وأسف على الفوت ولام وذم وتردد في اضطراب حتى يخرج دينه ويسقم إيمانه وإذا صار إلى القول يقول لا يكون إلا ما شاء الله ولا يكون إلا ما قدر الله وإلا ما قضى الله وإذا قضى فلا يقوم شيء ولا يدوم إلا بالله فإذا علم أن الكون من الله والدوام بالله كان هذا من علم التوحيد وإنما هو كلحظة ثم يخفي في صدره هذا العلم حتى لا يشرق نوره وإنما كانت شررة أو كلمحة أو برقة ثم ذهبت وبقي العبد مع شرك السبب فكلما لحظ العبد إلى شيء من هذه الأسباب دونه فقد أتى بالشرك فإذا رأى السحاب استبشر وإذا أنبت الأرض ابتهج ثم فرح وأشر وبطر لأن قلبه في غفلة عن الله عز وجل فهذا قلب الموحد وقلب الكافر في غلفة فقلب المؤمن المتعلق بالأسباب غافل وقلب الكافر أغلف فالغلفة غلاف القلب والغفلة حجاب القلب وهو هذه الأسباب التي ذكرنا وقد انشق عنه الغلاف الذي كان في وقت الكفر وبقيت الغفلة فهذه الغفلة لا يذهبها إلا ذكر الله تعالى فلا يزال الذكر الدائم يذيبها بحرارة الحياة التي يزاد القلب بالذكر حتى يهتك حجب الأسباب كلها ويذهب الخفاء ويصير الأمور كالمعاينة له فهو يمضي في الأسباب ولا يغفل عن الله فيقبلها من عنده فإذا هاجت الريح استبشر بصنع الله لأنه علم أنه هو الذي أرسلها بشرا بين يدي رحمته وإذا رأى تراكم السحاب استبشر بصنع الله ثم يرى المطر سقيا كما قال وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه إلى غير ذلك
فأهل اليقين هتكوا هذه الحجب بقوة نور اليقين حتى انكشف لهم الغطاء وفضل الله هذه الأمة باليقين حتى صار ما بقي منهم من الشرك
أخفى من دبيب النمل في القلة والرقة فهذا مدح لهذه الأمة لأن شرك الأسباب ذاب فيهم وتلاشى بفضل يقينهم حتى صار أخفى من دبيب النمل لأن دبيب النمل لا يؤثر على الصفا وكذلك ما بقي من الأسباب لا يؤثر على أهل اليقين لأن قلوبهم صلبت باليقين وصار كزير الحديد والصخر
عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الشرك أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن يحب على شيء من الجور أو يبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
فأما قوله أن يحب على الجور ويبغض على العدل إنما يحب على الجور رجاء المنفعة منه ويبغض على العدل خوف المضرة ورجاء المنفعة
عن وهب بن أبان عن عبد الله بن عمر قال خرج عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما في سفر له فإذا بجماعة على طريق فقال ما هذه الجماعة قالوا أسد قطع الطريق فنزل فمشى إليه حتى قفده بيده ونحاه عن الطريق ثم قال ما كذب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إنما يسلط على ابن آدم من خافه ابن آدم ولو أن ابن آدم لم يخف غير الله لم يسلط الله عليه غيره وإنما وكل ابن آدم إلى من رجاه ابن آدم ولو أن ابن آدم لم يرج إلا الله لم يكله الله إلى غيره
وإنما هو شرك وشك والشك هو ضيق الصدر فإذا أحست النفس
بمكروه في الأمر انتفخت الرئة للجبن الذي حل بها فضاق الصدر حتى زحزح القلب عن مكانه فإذا ضاق على القلب مكانه ضاق موضع التدبير وهو الصدر لأن عيني الفؤاد مفتوحتان في الصدر وعند العينين تدبير الأمور ثم يصدر إلى الجوارح ولذلك سمي صدرا لأن الأمور تصدر من هناك
وإنما سمي شكا لأن ذلك النائب من الأمر يشك سعة الصدر كما يشك الثوب المبسوط فيجمع بعضه إلى بعض ويشك بشوكة أو بإبرة أو يخيط فيقال شك الثوب وهو مشكوك فإذا انتفخت الرئة بما خطر على بال القلب من الخواطر وضاق على القلب مكانه ترحل القلب عن مستقره وتذبذب وكان كالدلو المعلق أو القنديل المعلق فإذا تحرك القنديل اضطرب الإشراق فصار بعضه ظلا وبعضه إشراقا ففي الظل الضلالة وفي الإشراق الهدى فكلما تراكمت الأظلة انقبض الصدر فصار مشكوكا كالثوب الذي شك وقبض بعضه إلى بعض فصار متراكما بعضه على بعض وصارت له زوايا كذلك الصدر إذا انقبض حدثت له في زواياه أظلة فمنها يضل عن الله ويفتقد الهدى وأما الشرك فهو مأخوذ من الشرك والشرك حبل فيه معاليق يعلق بها أرجل الطير أو أعناقها أو أجنحتها حتى تؤخذ صيدا فكذلك الأسباب التي وضعت فيها حاجات الآدمي فتلك الأسباب تأخذ بقلبه لأن شهوة تلك الأشياء في نفسه فإذا اشتهاها له أحبها فإذا وصل حبها إلى قلبه ثم رأى القلب تلك الأشياء من تلك أحب تلك الأسباب من أجل تلك الأشياء وذلك قوله تعالى زين للناس حب الشهوات ثم عدد الشهوات فقال من النساء والبنين الآية
فالشك ضيق الصدر والشرك تعلق القلب بالشيء وإنما يوسع القلب
نور اليقين فكلما كان الصدر باليقين أنور كان أوسع وأكثر انشراحا فباليقين ينجو العبد من وبال الشك وبالإخلاص ينجو من وبال الشرك فعندها يتولاه الله وذلك قوله تعالى لداود عليه السلام يا داود هل تدري متى أتولاهم إذا طهروا قلوبهم من الشرك ونزعوا من قلوبهم الشك فخلق الآدمي والأسباب مشتبكة به لا يرى مسببا إلا في غيب وربوبية الرب قائمة في ذلك الغيب وفي جميع الأسباب لا تكون إلا به فالله مكونها وبالله يدوم ما كون والآدمي لم ير التكوين ولا التدويم إلا رؤية الإيمان بالغيب فاستقر قلبه إيمانا بذلك ثم جاءت النفس بشكها وشركها فأوردت ولو رجعت على القلب حتى صار القلب ذا شك وشرك فلا يزال صاحبها يضيع هذا الأمر ويهمله حتى يحل العقد ومنه عقدة الإيمان فيكفر والذي أغاثه الله وأيده لما رأى ضعف اليقين وانقياد القلب للنفس بما أوردت عليه فزع إلى الله حتى قواه وأيده فإذا رزق الله عبدا نور اليقين ونور التوحيد صار القلب موقنا مخلصا فبقوة هذين يمحو خواطر النفس في الصدر تلك الخواطر التي تورد شكا وشركا فاستقام القلب وصلب واستقرت النفس منقادة للقلب فإذا صار بهذا الحال خفي ذلك الشك والشرك فلم يؤثر ما بقي من ذلك في قلوبهم كما لا يؤثر دبيب النمل على الصفا لأن الذي خفي من البقية لا يقدر أن يزعزع النفس أو يشغل القلب عن الله
ألا ترى أنه قال في حديث أبي بكر رضي الله عنه أفلا أدلك يا أبا بكر على ما يذهب الله به صغار الشرك وكباره عنك قال بلى رسول الله قال تقول كل يوم ثلاث مرات اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم
فصغار الشرك مثل قول الرجل ما شاء الله وشئت ومن الند أن يقول لولا فلان لكان كذا وكذا
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إياكم واللو فإن اللو يفتح عمل الشيطان
واللو مفتاح الحسرات وإذا تحسر القلب تعرى عن خلع الله
عن عبد الله رضي الله عنه قال جاء رجل فقال يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل له ندا وهو خلقك
فالند هو شبيه بالضد لأن الضد صورة إبطال من يضاده والند من الندو وهو التباعد والنفار معناه أن تجعل من دونه دافعا عنك فلا يدفع عنك إلا من ولي خلقك
وجاء في الحديث ومن الند أن يقول لولا فلان لقتلني فلان وإنما صار أعظم الذنوب لأنه يضعف اليقين ويعمل في حل العقدة وسائر الذنوب يعمل في قضاء النهمة والتلذذ بالشهوات
ومعنى قوله عليه السلام الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا أن هذه الأمة لما خصوا به من اليقين لا يؤثر فيهم ما بقي
من الشرك إلا ما يخفى أثره والخبر سيق في معرض مدحهم وإظهار فضلهم على سائر الأمم وليس كما يتوهمه قوم أن المراد من الخبر أن الشرك يخفى عليهم لغمارتهم وجهلهم لأنه ما جاء في الحديث أن الشرك أخفى في الآدميين ولكنه قال أخفى في أمتي ما بال هذه الأمة يخفى عليها من الشرك ما لا يخفى على بني إسرائيل ويقين هذه الأمة أوفر قال عليه السلام ما أعطيت أمة من اليقين ما أعطيت أمتي
وإنما معنى الخبر أن هذه الأمة لليقين الذي نالوه من فضل الله ورحمته يذيب خواطر الشك والشرك في صدورهم فتدق وتخفى حتى لا ترى وتضعف حتى لا يؤثر كونها على القلب كما لا يؤثر دبيب الذر على الصفا وأما كبار الشرك فهو أن يعمل بطاعة الله يريد به غير الله رجاء اتخاذ المنزلة عنده فهذا موحد قد غلب عليه الجهل فأمل غيره وإذا رجع إلى توحيده علم أنه لا يملك أحد نفعا ولا ضرا دون الله
رئي شداد بن أوس في مصلاه وهو يبكي قيل ما أبكاك يا أبا عبد الرحمن قال حديث سمعته من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قيل وما هو قال بينا أنا عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوما إذ رأيت بوجهه أمرا ساءني قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أرى بوجهك قال أمر أتخوفه على أمتي من بعدي قلت وما هو قال الشرك والشهوة الخفية قلت يا رسول الله وتشرك أمتك من بعدك قال يا شداد أما إنهما لا يعبدون شمسا ولا حجرا ولا وثنا ولكنهم يراءون بأعمالهم قلت يا رسول الله والرياء شرك هو قال نعم قلت فما الشهوة الخفية قال يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهوات الدنيا فيفطر
وقال الحسن رضي الله عنه الرياء شرك
قال الله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا
وروي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه خرج ذات يوم إلى أصحابه وهم يتناجون فقال ما هذا النجوى قالوا يا رسول الله كنا نتحدث عن فتنة المسيح الدجال فقال عليه السلام ألا أخبركم بأعظم فتنة من الدجال رجل يعمل لمكان رجل
الأصل الخامس والسبعون والمائتان
في غياث العباد في أربع السلطان والقرآن وأهل الإيمان وأشرف المكان الكعبة
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال السلطان ظل الله يأوي إليه كل مظلوم من عباده فإذا عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر وإذا جار كان عليه الإصر وعلى الرعية الصبر وإذا جارت الولاة قحطت السماء وإذا منعت الزكاة هلكت المواشي وإذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسكنة وإذا خفرت الذمة أديل الكفار
قال أبو عبد الله رضي الله عنه إن الله تعالى أغاث عباده في أرضه
بأربع بالقرآن وهو كلامه كي يهتدوا به إلى الله تعالى وبالسلطان وهو ظله كي يتمانعوا به عما في أيديهم من المهجة والمال والأهل والولد وبالإيمان وفيه نور كي يهتدوا به إلى خالقهم وبالكعبة وهي أشرف البنيان كي يفوزوا بالرحمة التي فيها إذا طافوا بها فإذا قصدوا الله جعلوا نوره مرآة قلوبهم فينظرون فيها إلى عجائب ما أبرز من ملكه من لدن عرشه إلى الثرى وإلى عجائب تدبيره فيهم وإلى قدرته عليهم فأداهم ذلك النظر بقوة ذلك النور إلى عظمته وجلاله ونفاد قدرته وإلى جوده وكرمه ولطفه وعطفه عليهم وبره بهم وعظيم مننه فامتلأت صدورهم وقلوبهم به غنى وقويت أركانهم للقيام بأموره وانقادت نفوسهم واستسلمت لله وإذا قصدوا القرآن جعلوا بسم الله الرحمن الرحيم علما لعسكر القرآن فإن القرآن بمنزلة جند وعسكر فيه ألوان الأسلحة وآلات الحرب والعدة فيه يحارب الهوى والنفس والعدو ويبطل مكائدهم قال تعالى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى
وبسم الله الرحمن الرحيم قسم من ربنا عند رأس كل سورة يقسم لعباده أن هذا الذي وصفت لكم يا عبادي في هذه السورة حق وأني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري ثم حض الشيء الذي به عظمت فتنة العباد وهو الرزق فخصه بقسم آخر فقال فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون
وإذا قصدوا الكعبة لاذوا بها وجددوا بيعة الإسلام الذي دنسوه وأخلقوه باستلام الحجر الذي فيه بيعتهم حين استخرجهم من الأصلاب للميثاق
وإذا قصدوا السلطان ارتبعوا في ظله وسكنت نفوسهم في المستراح من ذلك الظل فإن الظلم له وهج وحرارة تحرق الأجواف وتظمأ الأكباد فإذا رأت الغنم الظل وأحست بالماء اندفعت في السير وصيرته مفزعا فإذا صارت إلى الظل مع الظمأ والعطش الشديد لم تجد الماء فبقيت على اليبس ووجدت الذئاب قد سبقن إلى الظل وقعدن بمرصد للغنم فما ظن العاقل بتلك الغنم ماذا يكون حالها وما ظنه برب الغنم ماذا يقول للراعي وعسى أن يقول له ألم يكن معك أسلحة وحراس تطرد الذئاب عن هذا المستراح وكيف سددت مجرى العيون حتى عطشت الغنم
وأما قوله إذا جارت الولاة قحطت السماء معناه انقطاع المطر من ماء الحيوان الذي ينزل من تحت العرش من بحر الأرزاق إلى السماء في الأبزن والأبزن هو مستنقع الماء في السماء فإذا أصاب السماء القحط انقطع عن الأرض القطر فإذا انقطع القطر ماتت الأرض فلم تنبت لأن الأرض إنما تنبت بحياتها وحياتها من ماء الحيوان فإذا جارت الولاة ذهب العدل عن الأرض وإذا ذهب العدل منعت الحياة ماء الحيوان عن أن يقطر فالوالي فاصل بين الحق والباطل فإذا ذهب الفاصل انقطعت الرحمة
وأما قوله إذا منعت الزكاة هلكت المواشي فإن الزكاة نمو المال والنمو من البركة وإذا منعت الزكاة دنس المال ولا بقاء للبركة مع الدنس وإذا ارتحلت البركة عن شيء هلك ذلك الشيء
وأما قوله إذا ظهر الزنا ظهر الفقر فمن أجل أن الغنى من فضل الله تعالى والفضل لأهل الفرح بالله وبعطائه والمناكحة بمحاب الله وبأمره وحبه يلتقي الزوجان على الأفراح بالله وعدهم الله بذلك في تنزيله الغني
من فضله فقال وانكحوا الأيامى منكم والصالحين الآية وبين في الآية من أين يغنيهم فقال من فضله والفضل قبل القسمة
ولذلك قال عمر رضي الله عنه ما وجدنا الطلب للغنى في مثل الباءة وتلا هذه الآية
فإذا زنى فقد آثر الفرح الذي هو من قبل العدو السابي لقلبه على الفرح الذي ندب الله عز وجل إليه عباده فقال قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا فذهب الفضل والغنى لأنه قد جاوره من يدنسه
وأما قوله إذا أخفرت الذمة أديل الكفار لأن المؤمن عاهد الله بالوفاء بذمته فإذا أخفر نقض العهد وإذا نقض العهد وهي عقدة المعرفة لأن المعرفة مقرونة بالعهد معقودة به فبنقض العهد يخاف انحلال العقد ومن قبل الانحلال تذهب هيبة الإسلام ويقذف الوهن في القلوب
عن ثوبان مولى النبي عليه السلام قال سمعت النبي عليه السلام قال ليتداعى عليكم الأمم كما يتداعى الأكلة إلى قصعتها قلت يا رسول الله ومن قلة بنا يومئذ قال لا بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن فقلت يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهة الموت
الأصل السادس والسبعون والمائتان
في ما تراءى للحكيم في منازل القربة مجاوبات للآية التي فيها السجدة
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا سجد قال سجد لك سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي هذا ما جنيت على نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنب العظيم إلا أنت
عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول في سجود القرآن بالليل مرارا سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقرأ في سجوده اللهم اغفر لي ذنبي كله دقيقه وجليله أوله وآخره سره وعلانيته
عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول في سجوده أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك جل وجهك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك يا عظيم فقلت يا رسول الله لقد سمعتك تقول في سجودك شيئا ما سمعتك تذكره قال وقد علمت ذلك قلت نعم قال تعلميهن وعلميهن فإن جبرائيل عليه السلام أمرني أن أكررهن في السجود
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله رأيتني هذه الليلة فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة ورأيت كأني قرأت السجدة فسجدت فرأيت الشجرة مكانها سجدت لسجودي وهي تقول اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وضع عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود عليه السلام
قال ابن عباس رضي الله عنهما فقرأ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} السجدة ثم سجد فسمعته يقول كما قال الرجل عن قول الشجرة
الأصل السابع والسبعون والمائتان
في الحكمة في فتاني القبر
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذكر يوما فتاني القبر فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أترد إلينا عقولنا يا رسول الله قال نعم كهيئتكم اليوم فقال عمر رضي الله عنه ففي فيه الحجر
قال أبو عبد الله رضي الله عنه قد فسرنا هذا الحديث في الأصل السادس والعشرين وبقيت علينا نكتة لم نأت على تفسيرها وذلك أنا سئلنا ما سبب هذه الفتنة في القبر وقد انقطعت العبودة عند خروج الروح إلى الله موحدا وانكشف الغطاء والجواب في ذلك والله أعلم أن الله تعالى من على الموحدين المؤمنين بمعرفته وتوحيده وذلك من فضله ورحمته وخاب الآخرون عن فضله ورحمته وكان يبعث الرسول بعد الرسول إلى الأمم فكان الممنون عليه يؤمن به ويتبع الرسول في شريعته والخائب يكذب الرسول ويتخذ من دون الله وليا يعبده فكان يمهلهم حتى يريهم الآيات ثم إذا لم يؤمنوا بعث عليهم عذابا ودمرهم
ثم ينشئ قرنا آخر فكان هذا سنة الله في الذين خلوا من قبل وقال في تنزيله عندما قص نبأ نوح وإبراهيم وعاد وثمود وشعيب وموسى وفرعون ثم قال فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا ثم بعث الله محمدا {صلى الله عليه وسلم} رسولا فقال وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
وكان من رحمته أن أعطاه السيف بدل العذاب الذي كان يأتي الأمم بغتة فيهلكهم كي يخوفهم بالسيف حتى يدخلوا في الإسلام طوعا وكرها إذا مرنت نفوسهم الكارهة في الدين على شريعة الإسلام انقادت وأطاعت وزايلهم الغش والنفاق ومنهم من لم يزل النفاق فيهم إلى أن مات فستر الله عليهم ذلك فكان المنافقون يخالطون المسلمين في مناكحاتهم ومواريثهم ومغازيهم ومعاملاتهم والنفاق في القلب ولم يكن قبل ذلك نفاق إنما كان تصديق وتكذيب لأنه لم يكن هناك تخويف بالسيف فكان المكذبون يجهرون بالتكذيب حتى يأتيهم عذاب الله بغتة فلما جاءت هذه الأمة وخوفوا بالسيف دخلوا في الدين طوعا وكرها فجاءهم الابتلاء في القبر ليظهر نصرة الله للمطيع في الحياة الدنيا الثابت في قبوله الإسلام ويلقن الجواب عند السؤال ويضل الله الظالم الذي كان مع النفاق أيام الحياة
يحقق ما قلنا ما روي عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هذه الأمة تبتلى في قبورها
أشار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى هذه الأمة خصوصا وإنما ابتلوا ليميز الله الخبيث من الطيب قال الله تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء وقال وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب الآية وقال ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
وقوله تعالى ويفعل الله ما يشاء تأويله والله أعلم أن من مشيئته أن يرفع مرتبة أقوام عن السؤال وهم الصديقون والشهداء
وروي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قيل له ما بال الشهداء لا يفتنون في قبورهم فقال كفى ببارقة السيوف عليهم فتنة
معناه أنه أظهر صدق ما في ضميره حيث برز للحرب والقتل فلماذا يعاد عليه السؤال في القبر فإذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أحرى أن لا يفتن
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقاه الله فتنة القبر
عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مات مرابطا في سبيل الله أجير من فتنة القبر وجزي على صالح عمله الذي كان يعمله إلى يوم القيامة
فمن مات يوم الجمعة انكشف الغطاء عما له عند الله تعالى لأن يوم الجمعة لا يسجر جهنم ويغلق أبوابها فإذا قبض الله عبدا من عبيده يوم الجمعة كان دليل سعادته وحسن ما به عند الله فيوم الجمعة يوم الله الذي خلق فيه آدم وذريته ويومه الذي تقوم فيه الساعة فيميز بين الأحباب والأعداء ويومه الذي يدعوهم إلى زيارته في جنات عدن فلم يكن ليعطي بركة هذا اليوم إلا من كتب له السعادة عنده فلذلك يقيه فتنة القبر على أن سبب فتنة القبر إنما هو لتمييز المنافق من المؤمن في البرزخ من قبل أن يلقى الله لأن كلا الصنفين صلى عليهما وفعل بهما سنتة الموتى من الغسل والتكفين فامتحنا بالسؤال ليهتك المنافق من ستره بقوله لا أدري إذ ستر الله عليه نفاقه بحرمة ما أظهر من المنطق الجميل فقال لا إله إلا الله محمد رسول الله
وروي عن سفيان الثوري أنه جاء في الخبر أنه عندما يقال له من ربك يدخل الشيطان عليه فيتمثل له ويشير إلى نفسه فيقول أنا فطلبنا تحقيق هذا فوجدنا في الأخبار عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه كان يقول عند دفن الميت اللهم أجره من الشيطان
عن سعيد بن المسيب قال حضرت مع عبد الله بن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله فلما أخذ في تسوية اللبن على اللحد قال اللهم أجرها من
الشيطان ومن عذاب القبر ومن عذاب النار فلما سوى الكثيب عليها قام جانب القبر فقال اللهم جاف الأرض عن جنبها وصعد روحها ولقها منك رضوانا فقلت لابن عمر رضي الله عنهما أشيئا سمعته من رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
عن عبد الله بن محمد أن إبراهيم ابن النبي {صلى الله عليه وسلم} توفي فخرج به فخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يمشي أمام سريره ثم دخل قبره فلما رآه قد وضع في اللحد فاضت عيناه فلما رأوا ذلك أصحابه بكوا حتى ارتفعت أصواتهم ثم أقبل أبو بكر رضي الله عنه فقال يا رسول الله تبكي وأنت تنهى عن البكاء فقال يا أبا بكر تدمع العين ويوجع القلب ولا نقول ما يسخط الرب ثم دفن فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما من أحد يأتينا بماء نطهر به قبر إبراهيم فأتى بماء فأمر به فرش على القبر ثم وضع يده اليمنى عليه من عند رأسه فقال ختمت عليك بالله من الشيطان الرجيم والله أعلم
الأصل الثامن والسبعون والمائتان
في استكمال العبودية
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لن يؤمن عبد حتى يكون هواه تبعا لما جئت به
قال أبو عبد الله الذي جاء به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن الله هو العبودة التي لها خلقوا قال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقال ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه
فالعبودة في ترك الهوى واتباع ما جاء به فكل امرئ اجتمع فيه هذه الخصال الست فقد استكمل العبودة الحق والصواب والعدل والصدق والأدب والبهاء فإذا رفع أمرك إلى الله وقد اجتمعت هذه الست فيه لبق وإذا لبق قبل إذا عرض على الله وإذا صلى الرجل فدعته أمه فلم يجبها فالصلاة حق وليس بصواب فالحق كل أمر رضي الله به والصواب كل أمر رضي الله به في ذلك الوقت وأما العدل فأن يكون
قلبك في إصابة الحق والعمل به لا يميل إلى النفس يريد به الرياء وأما الصدق في العدل فأن يرمي ببصر قلبه إلى موضع المشاهدة وأما الأدب فأن تضع كل شيء من الحركات موضعه وأما البهاء فوقاره وسكينته وزينته ولبقه
الأصل التاسع والسبعون والمائتان
في فضل العقل
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا بلغه عن رجل شدة عبادة سأل كيف عقله فإن قالوا غير ذلك قال لن يبلغ
وذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} عن رجل من أصحابه شدة عبادة واجتهاد فقال كيف عقله قالوا ليس بشيء قال لن يبلغ صاحبكم حيث تظنون
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يعجبنكم إسلام رجل حتى تعلموا ما عقدة عقله
قال أبو عبد الله رضي الله عنه فالعقل خلق مخلوق من نور البهاء مقسوم بين الموحدين من ولد آدم موضوع في الدماغ وإشراقه وشعاعه ومعتمله في الصدر بين عيني الفؤاد فهو مدبر لأمره وآمر وزاجر ومميز ودليل وهاد ومبصر فبه عرف ربه وبه علم ربوبيته وبه نظر إلى تدبيره وإلى ما أظهر لخلقه من ملكه وعجائب قدرته
وصنعه وبه عرف جواهر الأمور من أمر الدين والدنيا وبه نهض إلى ربه وذلك النهوض اسمه على ألسنة الخلق النية من قوله ناء ينوء أي نهض ينهض وإنما ينهض بقصده وإلقاء همته لا أنه ينخلع عن مكانه فهمه وقصده نيته وهي النهوض عن سكونه فهم القلب يطير إلى الله بنور العقول التي لها كل على قدر حظه من العقل الذي قسم له ربه وبين القسم تفاوت وإنما تفاوتت الرسل والأنبياء عليهم السلام ومن دونهم من الموحدين في منازل الدين وفي درجات الجنان غدا بتفاضل العقول فالعبادة والاجتهاد فيها من ذات النفس ما هو وبال على صاحبه لأن ذات النفس هو الهوى الذي حذرنا أتباعه في التنزيل فقال تعالى ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله
فإذا كانت العبادة والاجتهاد فيها مخرجها من تدبير العقل استقام الأمر وصفت العبادة وذهب الجهد من ضيق النفس وعسرتها والهوى يضيق أمرها عليها فإذا كان العقل ولي القلب غالبا للهوى فالهوى مقضي مدحور والقلب آمر مؤمر عدل في إمارته فلا يستعمل جارحة إلا بما يدبر له العقل ولذلك كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا سمع بعبادة رجل سأل عن عقله فإذا كان العقل مغلوبا كان القلب أسير الهوى والنفس فهو وإن اجتهد في العبادة فعامة عبادته خطأ وجهل كما سبق في قصة جريج الراهب
الأصل الثمانون والمائتان
في الثلاثة التي تحت العرش
عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثلاثة تحت العرش القرآن له ظهر وبطن يحاج العباد والرحم تنادي صل من وصلني واقطع من قطعني والأمانة
قال أبو عبد الله رضي الله عنه فظهر القرآن يحاج الظالمين أهل التخليط وبطن القرآن يحاج المقتصدين لأن ظاهر القرآن يحاج لأهل الجنان وباطن القرآن لأهل الغرف وهم السابقون وإنما يحاج المقتصدين لأنهم أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم على مجاهدة منهم لأنفسهم فأهل الجهد لا يقدرون على صفاء الأمر وإنما يقيمونها مع كدورة النفس وعسرتها وتردها ونكدها فلا يبلغون حقائق الأمور على الصفاء وإنما يبلغ حقائق الأمور صافية السابقون الذين عتقوا من رق النفس فهم أحرار كرماء وأولئك عبيد أتقياء كما قال عيسى عليه السلام لبني إسرائيل لا عبيد أتقياء ولا أحرار كرماء
الأصل الحادي والثمانون والمائتان
في وصية نوح عليه السلام بنيه وهي أربع كلمات
عن معاذ بن أنس رضي الله عنه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه كان يقول ألا أخبركم عن وصية نوح عليه السلام بنيه حين حضره الموت قال إني واهب لك أربع كلمات هن قيام السموات والأرض وهن أول كلمات دخولا على الله تعالى وآخر كلمات خروجا من عنده ولو وزن بها أعمال بني آدم لوزنتهن فاعمل بهن واستمسك حتى تلقاني أن تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والذي نفس نوح بيده لو أن السموات والأرضين وما فيهن وما تحتهن وزن بهؤلاء الكلمات لوزنتهن
قال أبو عبد الله رضي الله عنه ونعمت المواهب ونعم الموهوب له هذا نوح رأس المرسلين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين أوصى ابنه عند وفاته وخروجه من الدنيا ثم صير الوصية هبة ليكون تمليكا ولا يكون تمليك إلا من مالك فدلت هذه الكلمة من قول نوح عليه السلام أني واهب لك أن هذه الكلمات وهبت لي فأنا واهب لك من قبل أن يزول ملك الهبة مني بمزايلة الروح الجسد لأن أولاد الرسل إنما
يورثون إرث النبوة بحكم الله قال الله تعالى وورث سليمان داود وقال زكريا عليه السلام فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب
وهذا الولد هو سام بن نوح فيما روي في الخبر وهو أب العرب والعجم المجاورين للعرب وهم فارس والروم وأما حام فهو أب الحبشة والهند والسند وأما يافث فهو أب الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج فكان هؤلاء الثلاثة ممن ركبوا السفينة معه وامتنع كنعان الابن الرابع وحال بينهما الموج فكان من المغرقين وإنما صارت هذه الكلمات الأربع قيام السموات والأرض وما فيهن بالحق لأن الله تعالى خلق السموات والأرضين وما فيهن بالحق لتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون وحقيقة القيام بالحق في الوفاء بمقالة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وإنما يطالب الله عباده بحقيقة القيام بهذه الكلمات الأربع حتى يرضي الحق فالسموات والأرض وما فيهن مسخرات للآدمي ليقوم هذا الآدمي بمقالة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر منطقا وعملا ووفاء لطهارة هذه الأربع ونزاهتهن وقدسهن
فمن قام من الآدميين بهذه الأربعة بهذه الصفة التي وصفنا كان ولي هذه الكلمات وكان ولي الله وبه تقوم السموات والأرض وما فيهن وإنما صارت في الوزن أثقل من السموات والأرض وما فيهن وأوزن من أعمال بني آدم لأن هذه الكلمات عماد الأعمال فبالتسبيح تطهر الأعمال وبالتقديس تحط أثقال النعم وبالتهليل تقبل الطاعات وبالتكبير ترفع وينال الثبات
وأما قوله أولهن دخولا على الله وآخرهن خروجا من عند الله فإن هذه الكلمات رؤوس الكلام وأمناؤه ومهيمن على سائر الكلام فالأمناء أولهن دخولا على الملك يوم يقعد لعرض الأخبار وتدبير الملك فيرفعون إليه أمور الرعية ثم يأذن للرعية فيعترضهم فإذا خرجوا من عنده كان التدبير مع الأمناء وقضاء حوائج الرعية على أيديهم وقبول معاذيرهم ونوال عطاياهم فكذلك هذه الكلمات يدخلن على الله يوم تعرض الأعمال في كل إثنين وخميس ثم تجيء الأعمال بعد ذلك على أثرهن فتعرض على الله فتزكية الأعمال وتوفيرها من هؤلاء الأمناء يشهدون لها بالصدق وإذا خرجت الأعمال بقي هؤلاء عنده لتوفير التقصيرات وتصحيح الأعمال وسؤال القبول والثبات وتربية الأعمال وتقوية النفوس ومدد القلوب فهن المستأذنات للأعمال والمسهلات لسبل الأعمال والشفعاء والمزينات لأن على طريق العرض سماطي الملك ملك الرحمة وملك العظمة وملك السلطان وملك البهجة وملك الجمال وملك الجلال وملك البهاء فهذه الكلمات تطرف الأعمال إلى مالك الملك وتسهل السبيل وتشفع وتزين وبهن يقرع الباب ومثل ذلك مثل ملك أصبح فعرضت عليه أعمال الرعية واجتمعت الرعية على باب الملك فأول من يدخل عليه الوجوه وسراة الرعية والمختصون بالوسائل فإذا دخلوا عليه قربهم في المجلس وأدناهم من نفسه وأحلهم محل الأمناء والخاصة فإياهم يأتمن وعليهم يقبل ومنهم وإياهم يسعف بالحوائج ومن أجلهم يأذن لهم وعلى قدر ما يثنى كل واحد منهم على الرعية وينشر عن طاعاتهم للملك وصدقهم ووفائهم ونصحهم يقبل الملك على هذه الرعية ويقضي حوائجهم ويجزل عطاياهم فهؤلاء وفود الرعية فهذا مثل هؤلاء الكلمات ثم للقائلين بها درجات تتفاوت
ومثل ذلك مثل هذا الملك يجتمع ببابه هؤلاء الوفود فأول من يدخل
عليه أوجههم عند الملك وأحسنهم هيئة وأعقلهم وأعذبهم منطقا وأفصحهم لسانا وأصبحهم وجها وأطهرهم خلقا وأبهاهم زيا وسمنا وأنقاهم ثيابا وأقصدهم مشيا وأفهمهم عنه إشارة وأوعاهم علما فالحظ كل الحظ والإسعاف كل الإسعاف بالحوائج لمن كانت هذه صفته من بين الوفد
فكذلك هذه الكلمات قد وعتها القلوب ووعت معانيها الصدور وزينتها العقول لأفئدة القلوب وأشرقت أنوارها بين أودية الأفكار وعلى بصائر النفوس وأسماع هواجس الأحلام فمن كان قلبه واعيا لنور الله الأعظم وصدره مشرقا بذلك النور وعين فؤاده منكشفة الغطاء عن زينة العقل وبهائه قد سد تراكم أنواره خلال الرويات واجتذت لها أبصار النفوس وأذنت أسماع الهواجس واحتشت من نور الحياة فإنما تخرج الكلمات إلى الله من بين هذه الأشياء فهذا بحر الله فيه جواهر الله فإنما يصعد إلى الله جواهر قد غاص عليها قائلها من بحره فولي البحر أعلم بأثمان تلك الجواهر وقد عجز عن علم أثمانها جميع الخلق قال له قائل ما أثمانها قال حب الله فمن ذا يدرك حرارة الحب وفورانه وشعله ويعلم كنهها إلا محبوبه الذي يثيره قال قائل وكيف يثيره قال يثير الحب الذي وضعه في العبد بالحب الذي عنه للعبد فمن خرجت منه هذه الكلمات من حبه فدخلت هذه الكلمات منه على الله كن أول من يدخل ثم يعرض أعماله بعد دخولهن وكل عمل إنما يقتضي ثوابه هذا الحب الذي إنما صار هذه الكلمات وجيهة عند الله بهذه الأشياء التي وصفنا وإنما نال هذه الأشياء بلب هذه الأشياء ولبه حب العبد لله ولب ذلك حب الله لعبده ومن كان قلبه خاليا من جميع ما وصفنا إلا أنه مؤمن بهذه الكلمات قد تضمن توحيده نفس هذه الكلمات وعلما بها ومعرفة لها فهو مقربها ناطق بها باستقرار القلب بذلك التوحيد والإيمان قد خلا قلبه عن أنوارها وحشو ما فيها فإنما
يصعد إلى الله إيمانه بتلك الكلمات فيدخل من قائلها على هذه الهيئة وتلك على تلك الهيئة فإنما تكون كلمته من الله قربا ودنوا ووسيلة وجواز قول ونوال عطية على قدر هيئته أو تلك على قدر هيئتها
فاعتبر بهذا المثل الذي ضربنا لك بدءا من شأن الملوك والسراة المقدمين في الإذن قال الله تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون وما يعقلها إلا العالمون
فالغائص في بحر الله على هذه الكلمات هو عبد قد طالع مقاسم الكلمات كيف انقسمت على أمور العباد في موضع المقسم على العرش وطالع حكمة التأليف لحروف الكلمات في ملك الملك وطالع ما في حشو كل حرف منها في المبدأ فهو إذا نطق بها لاحظ المقسم فوجه يلحظه كل كلمة من معدنها التي عزيت هذه الكلمة إلى المعدن منه جرى إلى العبد وكل كلمة لها نوبة من الأمور والأفعال فالتسبيح تنزيه من الهواجس والحمد يكشف عن النعم والصنائع والتهليل يبرأ عن العلائق والتكبير يثبت القيومية له عن الزوال فعين فؤاده يدور مع دوران لسانه حتى تقسم اللحظات الكلمات على الأمور فيلاحظ الهواجس ويلاحظ النعم ويلاحظ الشرك ويلاحظ الزوال فينتقل لحظاته كما ينتقل دوران لسانه من كلمة إلى كلمة
الأصل الثاني والثمانون والمائتان
في رأس النعم وشكر المنعم
عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرأى في البيت كسيرة ملقاة فمشى إليها فرفعها ومسحها وقال يا عائشة أحسني مجاورة نعم الله فقل ما نفرت عن قوم فكادت ترجع إليهم
قال أبو عبد الله رضي الله عنه فرأس نعم الدين نور التوحيد معرفة بالقلب وشهادة باللسان أن لا إله إلا الله ورأس نعم الدنيا هذا الجسد الذي هو قالب لهذه النعمة الفائقة للنعم فإن الله تعالى أنعم عليك بنور التوحيد حتى عرفته ثم وضع حول قلبك في صدرك بيدرا من الأنوار يتربى فيها نور المعرفة وأنعم عليك بهذا القالب المجسد ووضع حوله بيدرا من نعم الدنيا يتربى فيها هذا الجسد وأمرت بحسن مجاورة نعم هذين فحسن المجاورة مع نور المعرفة أن لا تذكر كل شيء سواه وأن لا تؤثر عليه أحدا وأن لا تقرن بمشيئآته مشيئآت النفس وأن لا يلهيك الهوى عن الوله إلى الله تعالى في كل حالاتك وحسن مجاورة الجسد أن لا تستعمل جارحة من جوارحك إلا له ولرضاه عز وجل
الأصل الثالث والثمانون والمائتان
في طنين الأذن
عن أبي رافع رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا طنت أذن أحدكم فليصل على النبي عليه السلام ويقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ذكر الله من ذكرنا
وعن عبيد الله بن المغيرة رضي الله عنه أنه كان يقال إذا ضرب أذن العبد فإن الله يذكره فليذكر الله أو فليحسن ذكر الله
وروي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال إن الأرواح لتتلاقى في الهوى وأحدهما من صاحبه على مسيرة يوم وليلة وإن الأرواح خلقت قبل الأجساد بألفي عام فتشامت كما تتشام الخيل ثم هي جنود مجندة فإذا التقوا فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف
هذا كله عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقال سلمان للحارث كيف أنت يا حارث قال ومن أين عرفتني قال عرف روحي روحك وكذلك قال أويس لهرم بن حيان رحمهما الله ولولا أن الروح مشغولة بالنفس وشهواتها لأوردت عجائب على صاحبها من درك الأشياء لأن لها سطوعا في الجو تجول ثم تصعد إلى الله إلى مقامها الذي منه بدت ولكنها تدنست بما لبست من أثواب اللذات وتكدرت بما شربت من كأس حب الدنيا وخالطت الهوى ومالت نحوه فمن صفاه وأخلصه ونزهه فقد ظفر بنور اليقين وفاز بالحظ العظيم والكأس الأوفى
وإن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما قبض قيل له إلى أين يا رسول الله قال إلى السدرة المنتهى
فلكل رسول في السماء مستقر إذا قبض فلآدم عليه السلام في الدنيا وليحيى وعيسى عليهما السلام في السماء الثانية وليوسف عليه السلام في السماء الثالثة ولإدريس عليه السلام في السماء الرابعة ولهارون عليه السلام في السماء الخامسة ولموسى عليه السلام في السماء السادسة ولإبراهيم عليه السلام في السماء السابعة ولمحمد {صلى الله عليه وسلم} في السدرة المنتهى بباب الله عند الحجاب فهو متشمر هناك يسأل الله لأمته في كل يوم لكل صنف فللمتهافتين التوبة وللتائبين الثبات وللمستقيمين الإخلاص ولأهل الصدق الوفاء وللصديقين وفارة الحظ
وكذلك ما روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال حياتي خير لكم وموتي خير لكم
عن أنس بن مالك قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ألا إني لكم بمكان
صدق حياتي وإذا مت فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله إذا مت قال لا أزال أنادي في قبري رب أمتي أمتي حتى ينفخ في الصور النفخة الأولى ثم لا تزال دعوتهم لي مجابة حتى ينفخ في الصور النفخة الثانية
فطنين الأذن من قبل الروح أنه بحدة بصره وخفته وطهارته وحياته وسطوعه إلى المقام أدرك في وقت سؤال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بباب الله له شيئا وذكر الله إياه بخير فرجع إلى أصله المتمكن في رأسه وقلبه بذلك الخير والبشرى فطنت الأذن لصوته وما جاء به من الخير فلذلك قال فليصل على النبي {صلى الله عليه وسلم} لأنه ذكره عند الله في ذلك الوقت وطلب منه شيئا فاستوجب منه الصلاة ليكون فيه أداء حقه فهذا وما أشبهه مكرمات الموحدين من ولد آدم عليه السلام وكذلك العطاس هو في ذلك الوقت ذكر من الله لذلك الروح بخير فابتهج الروح وسطع نوره فذلك الصوت من سطوعه ولذلك قيل عطس وسطع وهما كلمتان مستعملتان في نوعين يقال عطس وسطع فلذلك أمر أن يحمد ربه وأول من فعل ذلك آدم عليه السلام لما استقر فيه الروح وذكر بخير فازدهر وسطع نوره كالمسرور
وروي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال العطاس من الله
وقال {صلى الله عليه وسلم} من حدث بحديث فعطس عنده فهو حق لأن ذلك وقت ذكر الله للأرواح فلا يقول صاحبه إلا حقا ولذلك وجب للمسلم على المسلم حق التشميت لأنه ظهر عليه أثر نعمة الله تعالى في ذلك الذكر
وروي أنه قال الله يا داود إن سمعت عاطسا من وراء سبعة أبحر فاذكرني
الأصل الرابع والثمانون والمائتان
في أن الدنيا ملعونة إلا عن ثلاثة
عن عبد الله بن حمزة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الدنيا ملعونة ملعون من فيها إلا من ذكر الله أو معلم أو متعلم
قال أبو عبد الله رضي الله عنه فالدنيا هذه الدار التي دورت أرضها تدويرا بجبل قاف وأحيط عليها بالجبل والآخرة هي الدار الآخرة وهذه أولى قال الله تعالى وإن لنا للآخرة والأولى
وسميت هذه دنيا لأنها أدنى إليك والآخرة تعقب هذه إذا ذهبت هذه جاءت تلك فتلك اسمها عاقبة قال الله تعالى والعاقبة للمتقين
وسميت هذه عاجلة لأنها عجلت وتلك آجلة لأنها أجلت ففي هذه الدار زينة وحياة وفي تلك الدار زينة وحياة وحياة هذه من الروح المركب في هذا القالب الذي هو من اللحم والدم والعظم والعصب والعروق والشهوة واللذة في هذا القالب وأصل الشهوة من الفرح وأصل اللذة من الذهن وأصل القالب من التراب والحياة مسكنها في الروح والروح مسكنها في الدماغ ثم هو منفش في جميع الجسد وأصله معلق في الوتين عرق القلب مشدود هناك وذلك العرق نياط القلب والنفس مسكنها في الباطن ثم هي منفشية في جميع الجسد وأصلها مشدود بهذا العرق والشهوات في النفس واللذة منها وعملها من الذهن فهذه الزينة والحياة التي في النفس تستعمل هذا القالب فما كان من عمل العين خرج إلى العين وما كان من عمل السمع خرج إلى السمع وما كان من عمل المنطق خرج إلى اللسان وما كان من عمل اليد خرج إلى اليد وما كان من عمل الرجل خرج إلى الرجل فمخرج أعمال الجوارح السبع من الفرح الذي في القلب ومن الزينة والحياة التي في النفس فإذا حزن القلب ذبلت النفس وانطفأت نار الشهوة وتعطلت الجوارح عن العمل وسكنت الحركات وإذا فرح القلب هاجت النفس وصارت قوية طرية وأثارت نيران الشهوات واستعملت الجوارح فالفرح رأس مال أعمال الجوارح والعبد مبلو بهذا الفرح فإذا حيى القلب بالله ففرح بشيء من زينة الدنيا تراءى ذلك النور الذي في قلبه وتلك الحياة التي لقلبه صنع الله في تلك الزينة وخلقه لها ورحمته فيها ورأفته على عبده بذلك فقبلها من ربه واستبشر بها وصار ذلك الفرح لله ونطق بالحمد لله وأضمر على الطاعة شكرا لله وإظهارا لعلمه أن هذا له من الله حتى يأخذ الفرح من صدره في جميع جوارحه فيذهب كسله وتقوى عزيمته وتتجدد نيته وتطيب نفسه
فهذا عبد حامد لله شاكرا له قد صدق علمه بأنه من الله يقول بلسانه الحمد لله ثم يصدقه بفعل جوارحه شكرا لله وإذا هاج الفرح
بتلك الزينة من قلبه وكان قلبه محجوبا عن الله وصدره مظلما بغيوم الهوى ودخان الشهوات ورين الذنوب لم يتراءى لعيني فؤاده في صدره صنع الله تعالى في تلك الزينة ولا خلقه لها ولا رحمته فيها ولا رأفته عليه فجاء الهوى بكبره والنفس بعلوها وتجبرها فصار الفرح للنفس وبالدنيا وبمراءات الأشكال ومباهاة الأضداد فظهر الفساد من الجوارح وخرجت السيئات من الجسد كل سيئة من معدنها من قلة الرحمة وقلة المبالاة وترك النصيحة وظهرت الفظاظة واليبوسة والغلظة والقسوة ورذائل الأخلاق حتى صارت الجوارح إلى الغش والمكر والمخادعات وإلى أفعال الجسد وإلى سوء النيات والمقاصد وخرج إلى الفرعنة والتجبر كل على قدره يتنعمون بنعم الله ويتلذذون بتلك الزينة وتلك اللذات فرحا وأشرا وبطرا في هيئة أهل الكفر بالله والجحود له فقد تبين أن أصل هذا الأمر كله الفرح
فمن قدر أن يصرف هذا الفرح منه إلى الله في كل عمل وفي كل أمر من دنيا أو آخرة بنور قلبه وإلا فقد وقع في الوبال فإن كان فرحه في أمر الدنيا أشر وبطر وإن كان في أمر الآخرة أعجب وتكبر وصار مرائيا فمن صرف ذلك إلى الله لم يزدد لربه إلا خشوعا وحبا فحمده ودعاه ذلك إلى شكره بجميع جوارحه وذلك حفظ الجوارح السبع على أمر الله وإقامة فرائض الله والقيام بحقوق الله ومن لم يقدر على ذلك سباه فرحه فصار سبيا من سبي النفس
وإذا نالت النفس الفرح كان بمنزلة رجل متغلب وجد كنزا وأموالا جمة فاحتوى عليها وفرقها فيمن اجتمع إليه من الغوغاء حتى صاروا أعوانه وأتباعه فخرج بتلك القوة على أمير البلد وعمد إلى الأمير فسجنه فالأمير في الوثاق في السجن والخارجي يرؤس أهل البلد فإن تداركه أمير المؤمنين بمدد وجيش وكنز فقد نصره وإن تركه مخذولا فقد ذهبت الامرة فهذا شأن القلب مع النفس وقد حذر الله تعالى عباده في
تنزيله في قصة قارون فقال لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وقال وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع وقال تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون
فدلك على الفرح بفضله ليصرفك عن الفرح بالجمع فإن فرح الجمع هلاك الدين والقلب وفرح الفضل والرحمة يؤديك إلى الله لأن كل من فرح بشيء أقبل عليه وطلبه فإذا رأى الله من عبد إقبالا على هذه الدنيا الدنية وعلى هذه الشهوة الرديئة أعرض عنه ووكله إليها حتى يكون همه دنياه وهمته شهوات نفسه وطلبه العلو فيها حتى يضاد أقضية الله وتدبيره فخسر الدنيا والآخرة وإذا رأى إقباله على ربه صنع له جميلا وهيأ له تدبيرا ينال به فوز العاجل والآجل وسعادة الدارين
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم فما أقبل عبد بقلبه على الله إلا أقبل الله تعالى عز وجل بقلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة وكان الله بكل خير إليه أسرع
فإذا نظر الله إلى عبد بالرحمة وقلبه مأسور في إسار النفس أمده من عنده بما إذا صار المدد إليه تاب ومن رحمة الله تعالى على عبده إقباله فإذا أقبل عليه تلظت جمرة الإيمان في القلب فتوردت أشجار الخيرات وأينعت كما يتورد بساتين الدنيا ويتورد أشجارها إذا وجد الحر فإذا وجد القلب هذه القوة أقبل على النفس بالزجر لها بسلطان قوي حتى
يقمعها بمنزلة ما ضربنا له من المثل الخارجي إذا سمع أن جيش أمير المؤمنين قد أقبل هرب عن البلد وخلى عنها وخرج الأمير من السجن فقعد في إمرته واحتوشته الجنود وفرق الأموال والكنوز التي جاءته من أمير المؤمنين في جنده وقصد الخارجي يحاربه ويتباعد قليلا قليلا والأمير خائف مع هذا الجند لا يأمن بياته وافتراصه فهو مشغول بحرس جنده ونفسه ويسأل أمير المؤمنين زيادة في مدده فلا يزال يمده حتى إذا أمده بغاية المدد أخذه أسيرا ويكون الخارجي قد نظر إلى كثرة المدد فعلم أنه لا يقاوم أمير المؤمنين فألقى بيده سلما وأسلم وتاب على يدي أمير المؤمنين فهذه صفة التائب إذا تاب احتاج إلى مجانبة النفس ومجاهدتها في كل أمر فلا يزال كذلك ويزداد مددا وهو لا يأمنها مع ذلك المدد يخاف أن يثب وثبة من زوايا جوفه فيأخذه لأن مكرها أعظم من أن يوصف حتى تجلى لقلبه شأن الملكوت وأشرق في صدره أنوارها فامتلأ صدر العبد من جلال الله وعظمته فبسلطان الجلال يأسر النفس ويسبيها وبالعظمة يولهها فإما أن يأخذها بتلك القوة فيحبسها حتى تموت في سجن القلب غما وإما أن تلقي بيديها سلما وتذعن للقلب وتنقاد له فتصير في يدي القلب كالأسير حتى إذا وجدت تلك اللذات التي وردت على القلب من تلك الملكوت من العطايا اعتصمت بالقلب فتركت لذاتها الفانية الدنية فعندها وصل العبد إلى أوائل العبودة ووضع في هذا القالب الحياة والحياة في الروح والنفس وهما ريحان إحداهما أرضية والأخرى سماوية فالحياة ههنا في الروح والنفس والجسد قالب فإذا خرجا بقي القالب لحما مواتا وحياة الآخرة في كل شيء منه فكل شيء منه حي من قرنه إلى قدمه كل شعرة وكل ظفر حي بحياته وذلك إذا شربوا ماء الحياة بباب الجنة قال الله تعالى وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
أخرجه على قالب فعلان لبلوغ الغاية في التكثير كقولك رحمن ورحيم وعريان وعار والذي يشرب ماء الحياة في الآخرة يجد اللذة والنعيم كل شعرة منه على حدتها ويقوى على نعيم الجنة بقوة تلك الحياة
فجميع ما في هذه الدار التي سميت دنيا كله متاع هذه الحياة والمتاع المنفعة والبلغة قال الله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين إلى قوله ذلك متاع الحياة الدنيا ثم قال اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة الآية
ثم ضرب المثل بالغيث ليريك عاقبتهما وقال وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ثم قال إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها
ثم أخبرك لأي شيء جعل هذا فقال ليبلوكم أيكم أحسن عملا ثم ضرب المثل فقال إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ثم قال في آخره والله يدعو إلى دار السلام
ثم قال ءأنبئكم بخير من ذلكم وبين ذلك الخير ما هو
فقال جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ثم بين لمن هي فقال الذين يقولون ربنا إننا آمنا إلى قوله بالأسحار
وإنما صارت الدنيا ملعونة مذمومة من أجل أنها غرت النفوس بنعيمها وزهرتها ولذتها والشهوة واللذة في النفوس فإذا ذاقت النفوس طعم النعيم اشتهت ولذت فمالت عن العبودة إلى هوى النفس وإنما جعلها زينة في نفوس العباد وأعطى من تلك الزينة العدو ليوسوس بتلك الزينة ويمازج بها تلك الزينة التي وضعها الله في العباد وحبها وشهوتها ليبلوهم أيهم أحسن عملا في هذه الزينة ليتواضع لله فيما أعطاه من الزينة ويشكره عليه أو يتكبر عليه ويكفره كما قال سليمان عليه السلام حيث قال أيكم يأتيني بعرشها فقال ذلك الجني أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك فاستبطأه فقال الذي عنده علم من الكتاب وهو اسم الله الأعظم أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده أعني السرير قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر أي أقدر هذا الإنسي على ما لم أقدر عليه وأعطى ما لم أعط فابتلاني برؤية ما أعطى ليبلوني ءأشكر فأعدته بما أعطاه من نعمة علي لأنه حولي أو أحسده فأكفر النعمة
فهذه الأشياء إنما غرت المفتونين الذين لما تناولوها عميت عيونهم
عن تدبير الله وتقديره وسياقته إليهم ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
فوضع الله الدنيا مع زينتها وبهجتها وخلقنا فيها فحرم وأحل وأمر ونهى فمن انتهى عن المحرمات وأدى الفرائض وتناول من الدنيا فعبده بتناولها لأنه أخذها على الحاجة ومن السبيل التي أطلقت له فقد خرج من الذم وبرئ من الدنيا المذمومة وإن تناول بشهوة ونهمة في غفلة عن الله تعالى فقد أخذ الدنيا المذمومة ولا يصل إلى هذه المرتبة التي تبرأ من عارها وذمها ووبالها إلا من وصل إلى الله فعظمته على قلبه وخشيته في صدره وذكره دائم على لسانه فليست هذه دنيا مذمومة وإنما هو رزق ومعاش وتزود يأخذ العبد من مولاه ليقوم بخدمته لأنه خلقه للخدمة وجعل هذه الأشياء كلها سخرة له فهو يأخذ من السخرة للخدمة والآخر يأخذ من هذه السخرة لقضاء الشهوة والنهمة ليفرح به أيام الحياة ليلهيه ذلك الفرح عن الله تعالى ويورثه الغفلة حتى يهتاج منه الكبر وينظر إلى نفسه وهيأته وما أعطي من الدنيا فيعجب به فيفاخر الناس ويناطح أشكاله فهو عبد فرجه عبد بطنه عبد هواه قد دخل في لعنة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حيث قال لعن عبد الدينار لعن عبد الدرهم ثم قال بئس العبد عبد نسي المبتدأ والمنتهى بئس العبد عبد سها ولها ونسي القبر والبلى بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى بئس العبد عبد طمع يقوده بئس العبد عبد هوى يضله بئس العبد عبد يختل الدنيا بدينه
فهذا كله جاء عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في خطبته وقال الله تبارك وتعالى تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إن الرجل ليعجبه شراك نعله يريد به أن يكون أجود من صاحبه فيدخل في هذه الآية
فاللعن واقع على ما يطلب به العلو ويلهي عن ذكر الله وعلى ما غرك من الدنيا لا على النعيم واللذة فإن النعيم واللذة قد تناولته الرسل والأنبياء والصديقون عليهم السلام فردهم تناولهم إلى الله ذكرا وشكرا ثم آووا منه إلى المأوى وهو حفظ الحدود والقيام بحقوق الله تعالى محل الاستثناء والله أعلم
الأصل الخامس والثمانون والمائتان
في أن القنوت وقوف العبد وإقباله وركود وخشوع
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كل حرف ذكره الله في القرآن عن القنوت فهي الطاعة
قال أبو عبد الله رضي الله عنه إنما صرفه إلى الطاعة لأنها أكشف الأشياء وأشهرها عند الناس والعامة إنما تعرف الطاعة والمعصية فكل ما أمر الله به فهو طاعة وكل ما نهى عنه فهو معصية فأما حاصل الاسم فالطاعة بذل النفس لله فيما أمر ونهى والمعصية امتناع النفس واشتدادها لأن الله تعالى دعا العبد إلى الوقوف بين يديه كالعبيد فالمؤمنون أجابوا دعوته وقبلوا العبادة ثم دعاهم بعد ذلك إلى شيء بعد شيء فمن ائتمر بأمره وانتهى عن نهيه فقد وفى بتلك الإجابة في المبتدأ وبذلك القبول فقيل أطاع فهو مطيع أي أعطى ذلك البذل الذي قبله في المبتدأ فقوله أعطى وأطاع مشتق بعضه من بعض وحروفها في العدد سواء
وفي التأليف مختلفة قدم العين هنا وأخر العين هناك ليستعمل هذا في عطاء العبودة ويستعمل ذاك في عطاء الأشياء المملوكة والمعصية من التعصيص وهو اشتداد النفس وامتناعها ومنه سمي العصا يقال في اللغة تعيص عليه أي امتنع وتشدد
وأما القنوت فهو الركود وكل شيء استقر في مكانه فلم يتحرك فهو راكد ومن ذلك سمي الماء راكدا إذا أمسك عن الجري والسفن رواكد قال الله تعالى إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره يقال قنت ونتق والنتوق أن يقابل الشيء بالشيء راكدا عليه وذلك قوله تعالى وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة
ومنه قول علي رضي الله عنه حيث سئل عن البيت المعمور فقال هو بيت في السماء السابعة نتاق هذا البيت أي بحذائه
والقنوت مقابلة قلبك عظمة من وقفت له وبين يديه فإنه روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال إذا صلى العبد أقبل الله عليه بوجهه
فمن حق إقباله عليه أن يقبل العبد بقلبه على عظمته وجلاله فهذه مقابلة العبد بقلبه قبالة ربه فهذا القنوت ومرجعه إلى ما كشفه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال هو الطاعة لأنه إذا قابله بقلبه فقد أعطاه بذل النفس فقد أطاعه وإنما صار إذا قابله باذلا لنفسه لأن القلب إذا لاحظ ببصر فؤاده جلاله وعظمته خلص إلى النفس هول الجلال والعظمة فانقبضت وانقمعت وانخشعت وذهلت عن هشاشتها وخمد تلظي نيران شهواتها لما أحست به
عن مجاهد رضي الله عنه في قوله تعالى وقوموا لله قانتين قال القنوت الركود والخشوع فجاد ما غاص مجاهد صار إلى الأصل
وأما التي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قانتين أي مطيعين فقول ابن عباس رضي الله عنهما ظاهر التفسير وقول مجاهد باطن التفسير وقوله تعالى يا مريم اقنتي لربك روي في التفسير أنه قال قومي لربك والقيام غير القنوت ولو كان القنوت قياما لاستحال أن يقول قوموا لله قانتين والقنوت صفة تحدث عن القيام
فقوله تعالى لمريم اقنتي لربك أي أطيعي ربك فهذا تفسير ظاهر ولكن أريد من مريم القنوت في الباطن وهو أن تقبل بقلبها على الله مظلا على النفس مشتملا على شهواتها لئلا تتحرك وتتفرق غليانا وتجيش حتى يفور دخانها إلى الصدر إلى محل إشراق نور الألوهة فإنه ليس من حق عطايا ربنا أن يعطي عبدا إشراق نور عظمته في صدره فيهمل العبد حراسته ورعايته حتى تفور حرارة شهواته كفوران القدر التي تغلي إلى صدره كالدخان بين يدي نور العظمة في صدره فإذا فعل ذلك حجب لأن ذلك الفوران كالدخان فإذا هاج من النفس وتأدى إلى الصدر امتنع الإشراق واحتجب وبقي العبد محجوبا كأنه صار خاليا من الزكاء
فأمرت مريم بالقنوت أي بالدوام وبالركود بمقابلة القلب قبالة عظمة الله حتى يدوم لها التعظيم لجلال الله ولذلك سمي دعاء الوتر قنوتا لأن الصلاة وقوف تخشع وتذلل يؤدى فرضه فإذا قنت فإنما خرج من صلاته التي افترضت عليه وقام له متعرضا لربه إلى موقف آخر لرغبة أو
رهبة فسمي قنوتا لأن ذلك مقام خرج من فعل صلاته إليه ودخل فيه بتكبيرة فقابل بقلبه محل الرغبة والرهبة ومن قبل التكبيرة كان في محل التذلل والتخشع بين يدي عظمته والآن في محل الرغبة والرهبة بين يدي جوده وكرمه فتباين التقابلان والموقفان
الأصل السادس والثمانون والمائتان
في عثرة الحليم وتجربة الحكيم
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا حليم إلا ذو عسرة ولا حكيم إلا ذو تجربة
قال أبو عبد الله رضي الله عنه فالحلم يعطي العبد من نور الجود فإذا خلص إلى القلب نور الجود انحلت عقد النفس وكلت مخاليبها وتخلص القلب من رق النفس ومن سخرتها ووثاقها واتسعت النفس بما نالت من القلب من نور الجود فتولدت السماحة وإذا عثرت فوقعت في الذنب فهناك تبصر وتنفسح لما رأت عثرتها اتسعت لغيرها في تلك العثرة وأبصرت أن العاثر هو كمثله إما مغبونا مخذولا وإما معاقبا ولما رأى في نفسه في وقت العثرة أنه مغبون أو معاقب أو جاهل فقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا حليم إلا ذو عثرة أي بعد العثرة وصل إلى حقيقة الحلم وكنهه فأما قبل العثرة فقد يكون حليما وليس على كنهه كأنه لم
يكمل حلمه بعد لأن نفسه لم تتسع بعد في الحلم الذي أعطي فإذا جاءت العثرات اعتبر بها ورأى غيره فيها كما رأى نفسه في وقتها فهناك يجد الحلم
وهذا قول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في حديث آخر ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس وليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي قعد في بيته وقنع
فذاك الذي كثر عرضه هو أيضا غني ولكن الغنى على كنهه وحقيقته هو غنى النفس والمسكنة على الحقيقة وعلى كنهها في من قعد في بيته وقنع بما أوتي
وأما قوله لا حكيم إلا ذو تجربة فالحكمة من نور الجلال فإذا أعطي العبد انفجرت ينابيع الحكمة على قلبه فهذه الحكمة ينبوعها على قلبه فهي جاثمة متراكمة وما لم يأخذه التجارب لم تقدر النفس على مطالعة الحكمة لأن النفس بلهاء غنمية مشغولة بالشهوات فكيف تدرك الحكمة والحكمة باطن الأمور وأسرار العلم فهي تعاين الظاهر ولا تدركه فكيف تدرك الباطن فإذا جرت الأمور صارت هذه التجارب له كالمرآة ينظر فيها لأنها صارت معاينة ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ينتهي عقل الرجل إلى ثمان وعشرين ثم بعد ذلك التجارب
فالعقل للقلب والتجارب للنفس لأن العقل باطن والتجارب ظاهرة تبصر العين وتسمع الأذن ويشم الأنف وتلمس اليد ويذوق اللسان
واللهاة والتجارب ههنا وهذه الأشياء مسالك إلى النفس وعندها تشعر النفس بذلك للعقل الذي أعطي لأن العقل مسكنه في الدماغ وفي الصدر يشرق بين عيني الفؤاد والنفس لا تعلم بشيء من ذلك إلا ما يعلمها القلب ويفطن لها فإذا نالتها التجارب عرفت وأيقنت لأنها صارت معاينة ما أدى إليها القلب من الحكمة ودلالة العقل
الأصل السابع والثمانون والمائتان
في كلمة التقوى وصورة معناها في القلب والكنية والختم والقفل على القلب
عن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول وألزمهم كلمة التقوى قال لا إله إلا الله
قال أبو عبد الله رضي الله عنه إنما سميت هذه الكلمة كلمة التقوى لأنه صارت وقاية لتوحيده لأنه أثبت عقد المعرفة بإلهه قلبا وباللسان نطقا أنه إلهه فلما أحدث الأعداء هذا الحدث وهو الشرك فأشركوا في ملكه غيره وذهبوا بوله قلوبهم في الضر والنفع إلى الذي قصدوه بالعبودة رجاء وتأميلا لنوال نفع ودفع ضر اقتضى الله المؤمنين كلمة نفي ذلك الحدث وهو قوله لا فنفوا بقولهم لا هذا الحدث الذي أحدثته الفجرة الغواة الظلمة فصار قوله لا نزاهة لرجاسة ما أتوا به وطهارة لنجاسته ووقاية لذلك العقد الذي اعتقدوه وحصنا كثيفا لما في ذلك العقد وهو التوحيد ونور المعرفة فنسبت هذه الكلمة إلى التقوى وإنما هو في الأصل وقوى مأخوذ من الوقاية
أي صار وقاية لعقدة التوحيد أن لا يمازجه شرك ثان معه فإنه واحد لا ثاني له فرد لا نظير له
وهذه الكلمة في قالب الافتعال لا في قالب فعل لأن فعل هو قالب الظاهر وافتعل هو قالب الظاهر والباطن فقيل اتقى وكان حقه أن يقول أوتقى لأن الواو في أصل الكلمة موضوعة لأنها أصيلة من قوله وقى يقي وقاية فلما صار افتعل كان حقه أن يقال أوتقى فثقلت على الألسنة لاجتماع الواو والتاء فأدغمت الواو في التاء وشددت التاء فقيل أتقى يتقي اتقاء والاسم منه تقوى
فقوله لا إله ينفي وقوله إلا إله استثناء لئلا يقع النفي على الجميع فلو قال لا إله ثم اقتصر لكان نفي الجميع فابتدأ بنفي الحدث بقوله لا إله ثم قال إلا الله لئلا يقع النفي على هذا الاسم وهو قوله إله فإنما هما كلمتان نفي ب لا وأثبت ب إلا فقوله لا حرفان لام ثم ألف و إلا أربعة أحرف ألف ثم لامان مدغمة أحدهما في الأخرى ثم ألف فكأنما أخرجت هذه الكلمة على صورة إشارات القلوب وقصدها لأن القلب لما حيى بنور الحياة انفتحت عينا الفؤاد بالنور وجاء نور الهداية ونور المعرفة فتراءى لعيني الفؤاد انزعج القلب مرتحلا عن وطنه إلى ذلك النور الذي عاين حتى لقيه فاطمأن وسكن إلى معبوده وبذل النفس للعبودة ثم خطر بقلبه بال إلهه وأنه أشرك في ملكه غيره وأن قلوبا ولهت إلى غيره افتقارا فهاجت منه المحبة المنطوية في نور التوحيد والهداية والمعرفة فحمى القلب من حرارة المحبة فمن تلك الحرارة قوي القلب حتى قام منزعجا بعضلاته وعروقه فنفى ولههم وافتقارهم إلى من دونه وأبطله فلما احتاج إلى إبراز تلك القوة للنفي أبرز باللام ثم بالألف وإنما ابتدئ باللام لأن عظم القوة فيها وهي نزيع الألف فإنه كان أولا ألفا ثم نزع منها لام فعظمت القوة في اللام فنفى القلب كل رب ادعى العباد له
ربوبيته وولهت قلوبهم إليه دونه فابتداء هذا القلب الذي وصفنا بالنفي لأرباب الأرض ثم سما عاليا حتى انتهى إلى الرب الأعلى فوقف عنده وتذلل وخشع له واطمأن ووله إليه وقال الله تعالى لنبيه {صلى الله عليه وسلم} سبح اسم ربك الأعلى
أي أن هذه أرباب متفرقون والرب الله الواحد القهار فهداه إلى الرب الأعلى وقال وأن إلى ربك المنتهى
فهذه صورة فعل القلب فلما احتاج إلى النطق والإبراز باللسان أعطي تلك الحروف ففي النفي لام وألف وفي المستثنى الذي هو المنتهى ألف مخفوضة ولامان وألف لاجتماع قوة اللامين على صورة فعل القلب يدلك على ذلك من قولنا كسر الألف وخفضها لأن القلب من السفول ينزعج نافيا للأرباب ويصعد إلى الرب الأعلى بالألف الآخر من قوله إلا فيثبته ربا لا شريك له واحدا لا ثاني له أحدا لا نظير له فردا لا ند له صمدا لا شبيه له حيا لا مثل له قيوما لا زوال له إلها لا وله إلا إليه
فأما قوله وألزمهم كلمة التقوى فإنه ألزم قلوبهم هذه الكلمة بنور المحبة حتى نطقوا بها وذلك أنهم أعطوا المعرفة مع المحبة وأعطوا العقل والعقل من نور البهاء فوجد القلب حلاوة المحبة ووجدت النفس فرح زينة نور البهاء فسكن القلب واطمأن إلى الحلاوة واستقرت النفس للزينة فنشر عليه التكلم بقول لا إله إلا الله وهو قوله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم
فبحلاوة الحب وزينة البهاء صارت الكلمة لازمة لقلوبهم حتى خرجت إلى اللسان فدلت الألسنة بها ودارت بحروفها التي نطقت بمعناها فصارت منطقا أحاط بمعناها ولزمها وشددها كما أحاطت المنطقة بوسط الرجل وشددت فهو الذي ألزمهم هذه الكلمة بما من عليهم بحلاوة الحب وزينة البهاء
وأما قوله تعالى وكانوا أحق بها وأهلها فإنما صاروا كذلك لأن الله تعالى خلق المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام فيما روي لنا عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان الله ولا شيء فخلق المقادير وخلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فقد علم من يخطئه ممن يصيبه
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا قد بشرتنا فاعطنا قال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا قد بشرتنا فأخبرنا قال كان الله ولا شيء ثم خلق العرش فجعله على الماء وكتب في الذكر كل شيء
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل
وعن عبد الله بن الديلمي قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص بلغنا أنك تقول جف القلم بما هو كائن قال سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول إن الله خلق خلقه ثم جعلهم في ظلمة ثم أخذ من نوره ما شاء فألقاه عليهم فأصاب النور من شاء الله أن يصيبه وأخطأ من شاء الله أن يخطئه فمن أصابه النور يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك ما أقول جف القلم بما هو كائن
قال أبو عبد الله رضي الله عنه فيوم المقادير خلقهم وهم كالنجوم الذراري ثم سلبهم الضوء ووضعهم في ترابية التربة التي أراد منها إنشاء خلق آدم عليه السلام وقد طمس ضوءهم فلبثوا في تلك الظلمة مليا إلى أن مضى من المدة مقدار خمسين ألف سنة أو نحوه فصاروا في طول ذلك اللبث في تلك الظلمة ثلاثة أصناف فصنف منهم زعم أن الذي ملكنا لم يدم ملكه فعجز عنه ولو لم يكن كذلك لم يتركنا ههنا كالمنسي وقال الصنف الآخر تركنا ههنا فنحن ننتظر ما يكون وما يظهر لنا من أمره فالأول كفر والثاني نفاق وشك وقال الصنف الثالث تركنا ههنا وهو دائم ونحن له يجعلنا حيث يشاء فأما الصنف الأول لما تكلموا بما ذكرنا صارت تلك الترابية في أفواههم وقال لهم ما الذي رأيتم مني حتى نسبتموني إلى العجز وانقطاع الملك فصارت هذه
الكلمة ختما على أفواههم على تلك الترابية وهو قوله تعالى ختم الله على قلوبهم فالختم غير مرفوع أبدا
وأما الصنف الثاني فشكوا فهم في الزندقة ينتظرون ما يكون ولم يستيقنوا ولا استقرت قلوبهم فتناثرت تلك الترابية على أفواه قلوبهم لتذبذبهم مرة إقبالا على الله ومرة إعراضا عنه ومرة إقبالا على بال النفس فلم يصر ختما ولكن صار قفلا قد يرفع ويفتح إن شاء والختم لا يرفع أبدا ذلك قوله تعالى أم على قلوب أقفالها
وأما الصنف الثالث فقالوا ربنا الذي يملكنا دائم يجعلنا حيث يشاء إن شاء جعلنا في ظلمة وإن شاء جعلنا في نور ثم مدوا أيدي القلوب نحوه للتعلق به فضرب بيديه إلى قلوبهم فقال أنتم لي عملتم أو لم تعملوا فصارت هذه الكلمة مكتوبة على قلوبهم فمن أصابته يده اليمنى فهم الأولياء ومن أصابته يده الأخرى فهم عامة الموحدين تناولهم فصيرهم في قبضته وصارت تلك الكلمة مكتوبة بين أعين الفؤاد على قلوبهم وذلك قوله تعالى أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقال للآخرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم فالطبع هو الختم
فهذه كانت صفتهم في البدو ولم يزل ينقلهم من حال إلى حال إلى أن نقلهم إلى الطينة المعجونة طينة آدم عليه السلام قال تعالى في تنزيله من حمأ مسنون
ثم لما نفخ فيه الروح أخرج المتعلقين من كتفه الأيمن كهيئة الذر في صفاء وتلألؤ وأصحاب الشمال كالحمة سودا من كتفه الأيسر والسابقون أمام الفريقين المقربون وهم الرسل والأنبياء والأولياء عليهم السلام فقررهم وأخذ عهدهم وميثاقهم على الإقرار له بالعبودة وأشهدهم على أنفسهم وشهد عليهم بذلك ثم ردهم إلى الأصلاب ليخرجهم تناسلا من الأرحام أرحام الأمهات
عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال الله تبارك وتعالى خلق آدم فضرب بيمينه على كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضا كالفضة ومن اليسرى سودا كالحممة ثم قال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي
معنى قوله هؤلاء في الجنة ولا أبالي والله أعلم أني لا أبالي ما يعملون من خير أو شر فأقبل خيرهم وأغفر شرهم وذلك قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها إلى قوله أولئك الذين نتقبل منهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئأآهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون
وهو الوعد الذي وعدهم حيث ضرب بيديه إليهم تناولا ثم قال لهم أنتم لي عملتم أو لم تعملوا وإنما صاروا بيضا كالفضة من أجل ذلك النور الذي أصابهم والآخرون سودا من أجل الظلمة التي خلقهم فيها
عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول إن الله خلق آدم وأخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي فقال رجل يا رسول الله فعلى ماذا إذا نعمل قال على مواقع القدر
عن هشام بن يسار الجهني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم فقال عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يسأل عنها فقال إن الله خلق آدم فمسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره بيده فاستخرج ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت وهو على عمل أهل النار فيدخله به النار
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة نطفة ثم علقة مثل ذلك ثم مضغة مثل ذلك ثم يبعت الله الملك بأربع كلمات فيقول له اكتب أجله وعمله ورزقه وشقي أو سعيد وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيغلب عليه كتابه الذي سبق فيختم له بعمل أهل النار فيدخله الله النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيغلب عليه
كتابه الذي سبق فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخله الله الجنة
فهذه قصة هذا الخلق سبق لهم ما سبق قال في تنزيله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون
فالحسنى هي الجنة فمن سبقت له الجنة بوعد من الله تعالى لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون أي في الجنة فشكر الله لهم ما كان لهم في تلك الظلمة من الطمأنينة إلى الله تعالى في وقت مبعث محمد {صلى الله عليه وسلم} وعرفهم منته عليهم فقال وألزمهم كلمة التقوى ثم شكر لهم قديمهم في تلك الظلمة فأثنى عليهم بقوله وكانوا أحق بها وأهلها أي أحق بهذه الكلمة وأهلا لهذه الكلمة بما تقدم منهم
وإنما استقروا هناك في تلك الظلمة ونطقوا بما نطقوا بما رش عليهم من نوره هناك فأوجب لهم يومئذ محبته وجعل لهم ذلك النور حظهم من ربهم وأصحاب الختم لم يصبهم النور فلم يكن لهم حظ وأصحاب القفل منهم من لاحظ له فهو لاحق بأصحاب الختم ومنهم من له حظ في الغيب مكنون وحظهم أدنى الحظوظ ألا يرى إلى قوله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ثم قال إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فشرط
لهم أربع شرائط ثم قال فأولئك مع المؤمنين ولم يقل من المؤمنين
فهؤلاء لاحقة بهم فهم في عدد المؤمنين وحظهم من المحبة قليل وهم من أصحاب القفل أدركتهم الرحمة الواسعة فصاروا متخلصين من النفاق ورفع القفل عنهم حتى انفتحت عيون أفئدتهم مع هذه الشرائط الأربع التوبة إلى الله والإصلاح لما خرب والاعتصام بالله والإخلاص لله فحينئذ ألحقهم بالمؤمنين ليعلم أنهم لم يكونوا من المؤمنين الذين كتب في قلوبهم الإيمان يومئذ بقوله أنتم لي عملتم أو لم تعملوا فهؤلاء يعتريهم ذلك النفاق بعد إيمانهم في اعمالهم فهم الذين يدلون على الله بأعمالهم في الشريعة ويعجبون بشأن أنفسهم ويكبون على أموالهم في عامة عمرهم يتكثرون بها ويتعالون على الخلق ويعاملون الله في السر بخلاف العلانية ويراءون بأعمالهم ويتفاخرون على طلب الدنيا وجاهها وعزها وفخرها وخيلاها ويضاهئون الله في مدائحه فالعزة لله جميعا والعلو لله والكبرياء لله فهم في شهرهم ودهرهم طالبون لعز الدنيا ذهابا بأنفسهم عن الخلق وعلوا عن أحوالهم وتكبرا عن الانقياد للحق لكبرياء نفوسهم ساخطين لأقدار الله في الخلق وفي أنفسهم حاسدين لعباد الله في نعمهم مضادين لأقضيته وتقديره وتدبيره فيهم فهؤلاء أصحاب الأقفال الذين كانت له فيهم مشيئة أن تدركهم رحمته وجوده فإن للجود بعد انقضاء الرحمة المقسومة يوم القيامة بين أهل الجنة عملا وشأنا عظيما جاد الله على من بقي في النار آلافا من السنين وليس عنده مثقال ذرة خير إلا توحيده خرج له أيام دنياه من باب الجود والرحمة العظمى فهم أصحاب الأقفال الذين كانت لله تعالى فيهم مشيئة أن أدركتهم رحمته العظمى فلم يبال بما صنعوا فرفع عنهم القفل في الدنيا حتى
نطقوا بالكلمة العليا وهي كلمة التقوى وأدخلهم الجنة بلا عمل ولا خير قدموه نالوا هذا من باب الجود في محل القدرة ونال المؤمنون المحبة من الذات وولهت قلوبهم بالذات حبا له
الأصل الثامن والثمانون والمائتان
في مبدأ الاستقامة ومنتهاها
عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال لما نزلت الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على المسلمين فقالوا وأينا لم يظلم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليس بذلك ألم تسمعوا إلى قول لقمان إن الشرك لظلم عظيم
عن الأسود بن هلال عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنه سأل أصحابه عن هاتين الآيتين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وقوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فقالوا استقاموا فلم يذنبوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي بشرك
عن الحسن رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في قوله تعالى
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا أمتي ورب الكعبة مرتين أوثلاثا
فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ما ذكرك بهذه الآية
قال إن اليهود قالوا ربنا الله فلم يستقيموا فقالوا في عزير عليه السلام ما قالوا وإن النصارى قالوا ربنا الله فلم يستقيموا فقالوا في المسيح ما قالوا وإن أمتي قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلم يشركوا
قال أبو عبد الله الاستقامة اسم لفعل ولكل فعل حدان فحد منه مبتدأه والحد الآخر منتهاه فالاستقامة مبتدأها انتصاب القلب لله تعالى رقا وتذللا وإلقاء باليدين سلما فهذا أول العبودة ومبتدأ الاستقامة ثم قد يروغ يمينا وشمالا عن الانتصاب لله تذللا وخشعة ويناله تجبر الكبرياء ثم يتوب ويرجع إلى الله تعالى ويعود إلى مقامه من التذلل والرق ويصير إلى الاستقامة في مقامه فلا يزال هذا دأبه مرة هكذا ومرة هكذا يقطع عمره على هذه الصفة فيختم له بإحدى المنزلتين ومن أيد في الاستقامة حتى يمر إلى الله تعالى ولا يروغ في سيره يمينا وشمالا فإذا وصل إلى الله فقد ذهب الروغان واستقام على الباب بعد موت شهواته فهذا منتهى الاستقامة ورأيت فيما يرى النائم كأن سائلا يسألني عن قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فأردت أن أجيبه بما عندي من ظاهر العلم فرأيتي قبالتي شخصا بيده صحيفة يقابل بها وجهي مكتوب فيها إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا أي اشتاقوا إلى لقائه ثم انتبهت فقلت في نفسي هذا عين التفسير
وإذا نزل العبد منزلة المشتاقين فنهمته وشهوته اللحوق بربه فقلبه بالباب عاكف والعاكف لا تزول استقامته فالناس فيما بين الحديث من
مبتدأه إلى أعلاه كل قد أخذ من هذا بحظ فالديان يحاسبهم فيعطيهم من ثواب هذه الاستقامة كلا على قدر ثباته وانتصابه لله وتوقيه للروغان عنه وكذلك قوله تعالى ولم يلبسوا إيمانهم بظلم
فالإيمان هو طمأنينة القلب إلى الله واستقرار النفس بما استقر عليه القلب وإنما صار ذلك كذلك بالنور فذلك النور اكتساب القلب به يكرم وعليه يتاب وبه يجوز الصراط إلى دار السلام فإذا أذنب فالذنب ظلمة فقد ألبس ذلك النور ظلمة وهو قول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء فإن عاد نكت أخرى فلا يزال كذلك حتى يسود القلب فإذا تاب ونزع صقل قلبه يعني يرفع عنه تلك النكت فينجلي القلب بنوره بمنزلة شمس خرجت عن كسوفها فتجلت
فأقل الظلم ترك أصغر شيء من أمر الله وأعظم الظلم الشرك فذاك مبتدأه وهذا منتهاه فترك أدنى أمر الله هو ظلم وبقدر ذلك أطبق على نور الإيمان وأظلم الصدر منه بقدر ذلك لأنه افتقد إشراق ذلك النور على قدر ما أطبق فكلما إزداد ذنبا ازداد افتقادا للإشراق وازداد ظلمة حتى يطبق عليه كله إذا انتهى إلى منتهاه وهو رأس الذنوب وهو أعلاها والخلق فيما بين الحدين كل قد ألبس إيمانه يعني من هذا الظلم ومن ذلك مثل الشمس إذا انكسفت فعلى قدر ما ينكسف منها يفتقد الخلق إشراقها من الأرض فإذا انكسفت كلها صار نهارهم كالليل
فأعلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الخلق منتهاه في حديث ومبتدأه في حديث آخر
وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من بعده فقال أبو بكر رضي الله عنه استقاموا فلم يشركوا
وقال عمر رضي الله عنه استقاموا فلم يروغوا روغان الثعالب فقصد أبو بكر لأدناه وعمر لأعلاه
وأما حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في مسير ساره إذ عرض له إعرابي على بكر له فدنا فسأل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنهاه المهاجرون والأنصار فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خلوا عنه فقال يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد جئتك من بلادي وتلادي لأهتدي بهداك وآخذ من قولك فما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض فاعرض الإسلام علي فعرض عليه فقبل فازدحمنا عليه فدخل خف بكره في بيت جرذان فتردى الإعرابي فانكسر عنقه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صدق والذي بعثني بالحق لقد خرج من بلاده وتلاده وما له ليهتدي بهداي ويأخذ من قولي فما بلغني حتى ما له طعام إلا من خضر الأرض كما قال أسمعتم بالذي عمل قليلا وجزي كثيرا هذا منهم أسمعتم الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون فإن هذا منهم والذي بعثني بالحق ما بلغ الأرض حتى ملئ شدقه من ثمر الجنة اغسلوا أخاكم وكفنوه وصلوا عليه قالوا يا رسول الله أنشق أم نلحد فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللحد لنا والشق لغيرنا
عن سخبرة قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أعطي فشكر وابتلي فصبر وظلم فغفر وظلم فاستغفر ثم سكت فقيل ما له يا رسول الله قال أولئك لهم الأمن وهم مهتدون فهذا أعلاه وحديث علقمة عن عبد الله أدناه
فوعد الله في تنزيله للمستقيم الأمان من الخوف والحزن والبشرى
بالجنة ولمن لم يلبس إيمانه بظلم الأمن والاهتداء فكل إنما ينال من ذلك الوعد بقدر ما فيه من الاستقامة وقلة اللبس فالمؤمن لما آمن تقبل الله إيمانه ودخل في أمانه فله الأمن في الدنيا والآخرة من كل آفة فلما أذنب خرج من أمان الله بقدر ذلك الذنب ونقص من الأمن بقدر ذلك واستحق العقوبة بقدر ذلك وهو أن يزول نعمة من نعمه عنه بقدر ذلك وإن شاء تفضل وعفا وإن عاقب زالت عنه من النعم بقدر ذلك وذلك قوله تعالى ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
فالنعمة اسم جامع جملة لهذا الآدمي في بدنه ودينه ودنياه فلو لم يذنب لم يأخذ منه شيئا وكان على هيئته وإنما جاءت الأمراض والنوائب والأحوال المتغايرة لمكان الخطايا والذنوب غيروا فغير الله ما بهم وعفى عن كثير وقال الله تعالى في تنزيله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير
فالاعتبار في هذا الأمر بقصة أبينا آدم عليه السلام فإن الله تعالى خلقه بيده وأسجد له ملائكته وبوأه مع زوجته وعهد إليه عهدا أن هذا الذي أبى أن يسجد لك هو عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى وعرض الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها فنظر آدم إلى إباد هؤلاء فأخذته الغيرة وهاج منه الحب لله فاحتملها وتقلدها فبقيت قلادة في عنقه فقيل له هذه الجنة مسكنك فانظر أن لا يخرجك وزوجتك هذا العدو من هذا المسكن بأن يغرك حتى تحدث فيه حدثا يكون خيانة للأمانة وقيل له إن لك فيها أي في الجنة أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى وهذه الأربع قوام الآدمي ومعاشه يعرفه أنك إن أحدثت أخرجت منها فإذا أخرجت
شقيت أي صرت بمعزل من النعيم ولحقتك الشدة والتعب والنصب في هذه المعيشة فتحتاج إلى أن تتكلف لجوعك طعاما ولعريك لباسا ولظمأك ماء ولضحاك وهو حر الشمس مسكنا وكنا فلما أحدث أخرج منها وألقي عليه هذا الذي حذر من الشقاء دون حواء فقيل تشقى ولم يقل تشقيان ومن ههنا علمنا أن نفقة المرأة على الزوج فبقي ولده في هذا الشقاء إلى انقضاء الدنيا فكل من كان من ولده أحفظ لهذه الأمانة كان أوفر حظا من أمان الله في الدنيا والآخرة لأنه إنما قبل الله منه إيمانه بقبوله للأمانة
فأوفرهم حظا من وفاء الإيمان وحفظ الأمانة أوفرهم حظا من قبوله وإذا قبله فهو في أمانة في الدنيا والآخرة وذلك قوله تعالى إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور
وكان داود عليه السلام يقول في دعائه اللهم دافع عني من كل جانب وكان يسأل الدفاع
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من شأنه أن يقول أعوذ بك من كذا وبذلك أمر في تنزيله وهو قوله تعالى وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون وعليه أنزلت المعوذتان فالدفاع سؤال من بعد في الفرقة والتعوذ تعلق به في القربة من القربة
الأصل التاسع والثمانون والمائتان
في تمثيل الحرص والسرف بالذئبين
عن كعب بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والسرف لدينه
قال أبو عبد الله رضي الله عنه وضع الله الحرص في الآدمي ثم ذمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص محتاج إليه الآدمي ولكن بقدر معلوم فإذا لم يكن لحرصه وثاق تعدى القدر الذي يحتاج إليه فأفسد قال له قائل وما حاجة الآدمي إليه قال إن الحرص مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وهي نار تتقد وأصلها من نور الحياة وبقدر ما تتلظى نار
الحرص يظهر لهبها في الجوارح فإذا استعمل تلك الجارحة استعملها باستفزاز وخفة وإذا سكن الحرص فترت القوة فبالحرص يقوى على تعب الأركان في أعمال البر وبالحرص يصابر على طاعة الله تعالى وبالحرص يسمو إلى معالي الدرجات ومن شأن الحرص الترقي في الدرجات وطلب الازدياد من كل شيء يناله من الدنيا والآخرة وكذلك قيل في الحديث ما أعطي العبد شيئا من الدنيا إلا زيد مثليه في الحرص والحرص والصرح مشتق بعضه من بعض فالصرح البناء العالي المشرف الناتئ على البنيان وهو قوله تعالى يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب فهذا في الظاهر صرح وذاك في الباطن سمي حرصا لأنه به يطلب الازدياد ويترقى في درجات المزيد علوا
ثم إذا نظر إلى من دونه اعتراه العجب وضال به على الخلق واستطال فرمى به من ذلك العلو فلا يبقى له عضو إلا انكسر فأعطي الآدمي الحرص ليتقوى به على الازدياد من أعمال البر وأمر أن يكون حرصه مزموما بزمام الخوف والخشية مشحونا بأثقال السكينة والوقار ليكون معصوما من الإعجاب وترك الأدب في الدين
ألا ترى إلى قول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأبي بكرة حيث دخل المسجد والناس ركوع فركع ومشى في ركوعه حتى وصل إلى الصف فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زادك الله حرصا ولا تعد
وكان قد تقدم إليهم فقال إذا أتيتم الصلاة فأتوها بالسكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأقضوا
وقال في حديث آخر التأني من الله والعجلة من الشيطان
عن الحسن رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من استعجل أخطأ
فالعجلة من الخفة والخفة من هيجان الحرص يزيل السكينة والوقار فهذا صاحب الدين
وأما صاحب الدنيا فحرصه يحمله على طلب الازدياد طالبا لعلو الدرجات وقال الله تعالى تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا
فزجر عن طلب العلو في درجات الدنيا وحرم طالبه الدار الآخرة وهي الجنة لأن الدنيا مقدرة مقسومة لن ينال عبد منها إلا ما قدر له وهي درجات بعضها فوق بعض ليبلونا فيما آتانا قال تعالى في تنزيله وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم وقال وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ثم قال كل في كتاب مبين
وإنما ضمن بيان مقداره لتسكن النفوس إلى ما قدر ويتفرغ القلب لما خلق له من العبودة وإذا هاج الحرص وقع في الكبائر حتى يصير إلى عبادة الأوثان فإنهم عبدوا الأوثان بأهواء النفوس كلما زين الشيطان في قلوبهم شجرا أو حجرا نصبوه وثنا فعبدوه وحرصوا على ذلك وابتدروه قال الله تعالى كأنهم إلى نصب يوفضون والوفض السرعة في المشي
ولم يزل شأن الله مع الأنبياء أن ينزع إرادتهم ومشيئآتهم ليقفوا على مراقبة مشيئته حتى استقاموا فرضي الله عنهم بموافقتهم إياه وتخليتهم عن الجبرية فإن الجبار واحد قهار فليس للعبيد أن يتجبروا فيضاهئون الله وإنما سمي الجبار جبارا لأنه مستبد بكبره يجبر الخلق على مشيئته فالجبار مضاد لله مضاد لحكمه قال الله تعالى يا داود تريد وأريد ويكون ما أريد فإن أردت ما أريد كفيتك ما تريد وإن أردت غير ما أريد عنيتك فيما تريد ويكون ما أريد
ولم يزل يهذب نبينا {صلى الله عليه وسلم} عن التحارص في الدين حتى يكون بمقدار ومقداره أن يراقب أمر الله وما يبدو له من مشيئآته في كل أمر فيطمئن إليه حتى استقام فأثنى عليه فقال وإنك لعلى خلق عظيم فسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه فقالت كان يرضى برضاه ويسخط بسخطه أي برضاء الله وسخطه كأنه لم يبق له مشيئته
وبلغ من استقامته أنه فيما روي حين كان يقبض جاءه جبرائيل عليه السلام فقال إن ربك يخيرك بين لقائه وبين الخلد فقال لا أختار حتى يختار لي ربي
فهذا غاية رفض المشيئة لم يحمله الشوق إلى ربه على اختيار اللقاء ولم يحمله الكون بين الأمة في خالص العبودة ولذة الطاعات وتربية الأمة اختيار الكون بين ظهرانيهم فألقى الاختيار إلى ربه فرفع جبرائيل عليه السلام إليه وقد كان لملك الموت لا تنزعن محمدا حتى آتيك فرجع وملك الموت ينتظره فقال يا محمد إن الله اختار لك لقاءه فقال تقدم يا ملك الموت فما زال يقول لقاء ربي لقاء ربي حتى خرجت نفسه وكذلك فعل حيث خير بين أن يكون عبدا نبيا أو ملكا
نبيا فلم يختره حتى أشار إليه جبرائيل صلوات الله عليه وقد صار جبرائيل كهيئة الحلس الملقى ميتا من الفرق فأشار إليه بيده أن تواضع فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نبيا عبدا فقيل له إن لك بما تواضعت أنك أول من تنشق عنه الأرض وأول خطيب وأول شفيع ولواء الحمد بيدك ومفاتيح الكرم بيدك وتوقف جبرائيل فلم يختر له حتى ينظر ما يتجلى له من ربه من ملكه فلما تجلى له ما تجلى صار كالميت من الفرق فذاك ملك الجلال واستدل بذلك جبرائيل عليه السلام في ذلك الوقت أنه اختار له التواضع فجاء جبرائيل بما جاء وأشار له بالتواضع ولو أراد أن يختار له أن يكون نبيا ملكا لكان عسى أن يتجلى له ملك الجمال والبهجة فكان ينبسط جبرائيل عليه السلام ويأنس بما يتجلى له فيستدل به على ما يختار له ربه فهذا شأن النبي عليه السلام
وإذا كان الحرص في الدين يضر فكيف بمن حرص على دنيا دنية يطلب بها العلو على الخلق فمن فعل ذلك في دينه سمي جاهلا كما قال له فلا تكونن من الجاهلين ويكون قد عميت بصيرته قال الله تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور فعمي قلبه في ظلمات المعاصي جمعا من غير حق ومنعا من حق وإنفاقا من غير حق
قال الله تعالى إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين
وقال عليه السلام حبك الشيء يعمي ويصم
إنما حرص على جمعه لحبه إياه فأعماه وأصمه عن أمر الله فيه وعن حقوقه فيه وعن حدوده فيه وألهاه تكاثره به عن ذكر الموت حتى زار المقابر أصم أعمى قد لحقته حقوق المال كالزنابير تلسعه وكالعقارب تلدغه وكالحيات تنهشه قال الله تعالى ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة
وروي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن الذي جمع من غير حله ومنع الحقوق منه تمثل له ماله حية يطوق بها عنقه فتقض قضا بأسنانها شؤن رأسه بأكل دماغه ثم يعود كما كان ثم يفعل به مثل ذلك فما زال هذا حاله في الموقف حتى يقضي الله بين العباد ثم مصيره إلى ما شاء الله من النار أو غيرها
فالحرص في الدين يطمس العلم ويكون صاحبه جاهلا إن خرج الحرص من الوثاق فإذا كان في وثاق انتفع به صاحبه لأن الله تعالى وضعه في الآدمي ليكون عونا له وقوة على ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وإذا كان الحرص مفقودا أداه إلى العجز والكسل في أمر الله تعالى وفي عبودته فالحرص على الدنيا إذا كان في وثاق يقفه على القناعة بما قسم الله له من دنياه فكلما أتاه شيء منها من حله من غير طمع ولا إشراف نفس قبله من ربه وحمده عليه وقنع به والحرص في دينه إذا كان في وثاق يقفه على حدود مراقبة المشيئة وتدبير الله
وروي لنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعث إليه بهدية كأنه امتنع من قبولها فقال له يا عمر ما آتاك الله من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه فإنما هو رزق ساقه الله إليك
فمن أدبه الله وهذبه كان حرصه على ما وصفنا
الأصل التسعون والمائتان
في أن مراتب الشهداء سبع أو ثمان
عن جابر بن عتيك أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب عليه فصاح به فلم يجبه فاسترجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقال غلبنا عليك يا أبا الربيع فصاح النسوة وبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية
قالوا وما الوجوب يا رسول الله
قال إذا مات
قالت ابنته والله إني كنت لأرجو أن تكون شهيدا فإنك قد كنت قضيت جهادك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته ثم قال ما تعدون الشهادة فيكم
قالوا القتل في سبيل الله
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغريق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد
وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيد
قال أبو عبد الله فالشهادة لها مرتبة عظيمة عند الله والصدق أعظم مرتبة وقد ذكر الله في تنزيله الصنفين فقدم الصدق على الشهادة فقال ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
فبدأ بالأول فالأول ذكرالنبوة ثم الصدق ثم الشهادة ثم الصلاح فالصديق صدق الله في بذل نفسه له في جميع عمره والشهيد صدق الله في بذل نفسه له في وقت الوفاة وإنما نال الكرامة كل هؤلاء الأصناف ببذل النفس ومن بذل نفسه لله تعالى فقد آثر الله على نفسه وذلك أن الله تعالى وضع للعبد في هذا القالب أعني الجسد روحا به حيى وبالنفس التي في جوفه وهي الأمارة بالسوء المحبة للحياة في الدنيا فعظم الآدمي هذه الحياة ههنا ليلتذ بالأشياء بقوتها وعظم الله الحياة في الدار الآخرة وقال تعالى في تنزيله وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
فالحيوان في الجنة والحياة في الدنيا وكل شيء على قالب فعلان فهو أكثر من قالب فعيل وفاعل كقوله الرحمن والرحيم والعريان والعاري
وحسان وحسن وندمان ونديم فالعريان هو المتجرد عن الثوب والعاري الذي أخلق ثيابه وبلي قال النابغة
أتيتك عاريا خلقا ثيابي
على خوف يظن بي الظنون
فالحياة العظمى هي حياة الحي الذي لا يموت فمن حيى قلبه بالله سعد وللحياة بين العباد درجات فالكافر ميت القلب حي الجسد بحياة الروح فيه وحياة النفس الأمارة بالسوء والمؤمن حي القلب حي الجسد فحياة قلبه بالله وحياة جسده بالروح والنفس فنال بتلك الحياة التوحيد ثم لم يزل يعمل الطاعات يتقرب بها إلى ربه فكلما ازداد قربا زاده الله حياة قلب به وكلما ازداد من الله قربه ازداد حياة حتى ينال درجة الشهادة فيبذل نفسه لله ويؤثر الله على نفسه عند كل أمر لأن المؤمن ممتحن بالشهوات فإذا عارضته شهوة آثر الله على تلك الشهوة فرفضها ولم يذق نفسه طعمها عادى نفسه في ذات الله فهذا عبد قد أراد الله ورفض نفسه فحق على الله أن يريده ويؤثره وإن للشهوة حلاوة ولذة ولوجود الله بالقلب لذة وحلاوة ووجوده أن يتراءى لفؤاده نور من أنوار فيهيج من قلبه حبه له وشوقه إلى لقائه فكلما كان ذلك النور أعلى كان هيجان القلب وفوران الشوق وسلطان الحب أقوى وأشد فمن عارضته شهوة من شهوات الدنيا فأعطى نفسه حلاوتها ولذتها فقد آثر نفسه على الله تعالى فهو محجوب عن الله بقدر ما آثر لأن قلبه قد صار والها عن الله بتلك الشهوة فبقدر ما صار وصار ولهه إلى الشهوة نقص ولهه الذي يوله إلى الله وبقدر ذلك نقص من نور كلمة لا إله إلا الله فإن نور كلمة لا إله إلا الله أثقل في الميزان من سبع سموات وسبع أرضين وجميع ما فيهما من الخلق
وكذلك روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال قال موسى عليه السلام يا رب دلني على عمل أعمله
قال يا موسى قل لا إله إلا الله
وحسان وحسن وندمان ونديم فالعريان هو المتجرد عن الثوب والعاري الذي أخلق ثيابه وبلي قال النابغة
أتيتك عاريا خلقا ثيابي
على خوف يظن بي الظنون
فالحياة العظمى هي حياة الحي الذي لا يموت فمن حيى قلبه بالله سعد وللحياة بين العباد درجات فالكافر ميت القلب حي الجسد بحياة الروح فيه وحياة النفس الأمارة بالسوء والمؤمن حي القلب حي الجسد فحياة قلبه بالله وحياة جسده بالروح والنفس فنال بتلك الحياة التوحيد ثم لم يزل يعمل الطاعات يتقرب بها إلى ربه فكلما ازداد قربا زاده الله حياة قلب به وكلما ازداد من الله قربه ازداد حياة حتى ينال درجة الشهادة فيبذل نفسه لله ويؤثر الله على نفسه عند كل أمر لأن المؤمن ممتحن بالشهوات فإذا عارضته شهوة آثر الله على تلك الشهوة فرفضها ولم يذق نفسه طعمها عادى نفسه في ذات الله فهذا عبد قد أراد الله ورفض نفسه فحق على الله أن يريده ويؤثره وإن للشهوة حلاوة ولذة ولوجود الله بالقلب لذة وحلاوة ووجوده أن يتراءى لفؤاده نور من أنوار فيهيج من قلبه حبه له وشوقه إلى لقائه فكلما كان ذلك النور أعلى كان هيجان القلب وفوران الشوق وسلطان الحب أقوى وأشد فمن عارضته شهوة من شهوات الدنيا فأعطى نفسه حلاوتها ولذتها فقد آثر نفسه على الله تعالى فهو محجوب عن الله بقدر ما آثر لأن قلبه قد صار والها عن الله بتلك الشهوة فبقدر ما صار وصار ولهه إلى الشهوة نقص ولهه الذي يوله إلى الله وبقدر ذلك نقص من نور كلمة لا إله إلا الله فإن نور كلمة لا إله إلا الله أثقل في الميزان من سبع سموات وسبع أرضين وجميع ما فيهما من الخلق
وكذلك روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال قال موسى عليه السلام يا رب دلني على عمل أعمله
قال يا موسى قل لا إله إلا الله
قال يا رب دلني على عمل أعمله قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال يا رب دلني على عمل قال فأراد نبي الله أن يعمل عملا ينهك منه بدنه فقال يا موسى إن السموات والأرضين ومن فيهما من الخلق لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن
عن محمد بن علي رضي الله عنه أن النبي {صلى الله عليه وسلم} أمسى في الأنصار بقباء عشية خميس وأمسى صائما فأتاه أوس بن خولة الأنصاري لما أمسى بقدح فذاقه فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما شرابك فقال ماء وعسل أو لبن وعسل قال فوضعه وقال أما إني لا أحرمه ولكن أتركه تواضعا لله تعالى فإنه من تواضع لله رفعه الله ومن اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله
فهذا يحقق لك ما قلنا بدءا أن من آثر الله على شهوة فقد بذل نفسه لله ومن آثر الشهوة لقي ما لقي الخضر عليه السلام حيث عوتب على فعله وإنما يعاتب الأحباب والخواص من العباد والأباعد لا يعاتبون ولا يبتغي منهم ذلك
روي عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال بينما الخضر عليه السلام قاعد على شط البحر إذا أتاه سائل فوقف عليه فقال له أيها القاعد أسألك بوجه الله أن تعطف علي بخير فغشي على الخضر عليه
السلام ساعة من مقالة السائل بوجه الله فأفاق ثم قال أيها السائل سألتني بوجه الله لا أدري ما أكافئك به وليس من الأشياء أكرم علي شيء من نفسي فقد بذلتك نفسي بعزة وجه الله فدونك فبعها وانتفع بثمنها
فذهب به السائل فعرضه على البيع فباعه من رجل غني يقال له ساحم بن أرقم فذهب به إلى منزله وله بستان صغير في داره بجنبها جبل كبير فدفع المسحاة إليه وأمره أن ينحت شيئا من ذلك الجبل الذي في البستان قدر ما يغرس فيه شيئا وغاب ساحم إلى حاجته وأقبل الخضر على النحت من ذلك الجبل فأبطأ مولاه في حاجته فجاء إلى بيته ممسيا فقال لمن في البيت أطعمتم هذا الغلام قالوا أيما غلام قال الذي اشتريته اليوم وجعلته في البستان قالوا لا علم لنا به فاسترجع وأخذ الطعام ودخل عليه فإذا هو فرغ من ذلك الجبل وهذه وذلك الجبل فرسخ في فرسخ قد سوى في ذلك البستان وأصلحه وفرغ منه وقام إلى الصلاة فنظر ساحم إلى أمر عظيم وفرغ من ذلك فتعجب وكاد يغشى عليه فدنا منه فقال له من أنت قال أنا عبدك قال نعم فما قصتك وما جنسك وممن أنت قال أما القصة فعبد بيع وآخر اشترى وأما الجنس فمن آدم عليه السلام وآدم من تراب قال فمن أين لك هذه القوة التي أرى قال من الله قال فأسألك بوجه الله لما صدقتني من أنت فغشي على الخضر وسقط ساعة مغشيا عليه
فلما أفاق قال أنا الخضر المذنب فغشي على ساحم ساعة علم أنه الخضر فأفاق ثم غشي عليه ثم أفاق وهو يقول سبحان خالق النور أعتقت عبدك ووليك وحبيبك وصفيك خضر لوجهك وأسألك التوبة مما كان من استعمالي إياه فسجد الخضر سجدة وهو يقول يا رب بوجهك بذلت نفسي وبوجهك أقررت بالرق وبوجهك بعت رقبتي وبوجهك رددت إلي نفسي فمن الذي رجاك فخيبته ومن الذي خافك فلم
تؤمنه ومن الذي دعاك فلم تجبه يا رب أدعوك دعوة الخاطئين يا رب أعتقني ساحم فمن يعتقني من ذنوبي الموبقة خلصني ساحم من عبودته فمن يخلصني من سيئآتي وذنوبي عند ذي العرش فقال له ساحم أقسمت عليك بعزة الله أن تخبرني بالسبب كيف صرت عبدا وما الذي صير إلى أن بعت نفسك قال الوجه الذي أعتقني له ثم قص عليه القصة
قال وقد عظمت علينا منتك يا ساحم فإن رأيت أن أقيم فأؤدي بعض ما يجب من حقك أقمت وإن أذنت لي بالرجوع بعد إذ أعتقتني فأنت المأجور فيه فقال ساحم فقد أذنت لك يا ولي الله ارجع بسلام واذكرني في دعائك فقال اللهم اغفر لساحم وأرحمه رحمة لا عذاب بعدها قال فنودي قد أجبت يا خضر
قال ومضى خضر حتى أتى البحر فإذا هو برجل قائم على وجه الماء شاخص ببصره إلى السماء وهو يقول يا من أمسك السموات بأمره فلا يسقط بعضها على بعض يا من دحا الأرض وما فيها فأحصى عدد ما فيها من مثاقيل رملها وحصبائها يا من عاقب الخضر بذنبه وابتلاه بالعبودة بذنبه خلصه واجعل توبته مقبولة بوجهك أكرم الوجوه فدنا منه الخضر فقال السلام عليك يا عبد الله من أنت الذي تسأل التوبة للخضر قال أنا الذي آمنت بجلال ربي فاشتغلت بأداء شكر إيماني وإن الخضر لم يزل معصوما حتى رغب في الدنيا وأدخل في قلبه حبها فابتلي فقد رحمته وأخلصت له دعائي فقال له أنا الخضر فقال إليك إليك أيها المذنب لا تخالطني أيها الميال إلى الميالة والذيال إلى الذيالة والمغرور إلى المغرورة أنسيت نعيم الآخرة فجرك النسيان إلى طلب نعيم الدنيا أو قد نسيت شدة الآخرة وبؤسها فطلبت راحة الدنيا وسرورها أليس الله أبلاك بما ابتلاك عقوبة منه عليك فلو قد نجوت مما قد رأيت لربحت يا خضر الخاطئ تبوأت لنفسك مكانا كأنك تخلد فيها
وقد غرست لراحتك ظلا كأنك باق فيها أو ما علمت أن أمكنتها مبدلة وأن أغراسها منقلعة وأن عمرانها مخربة وأن نعيمها زائلة بمن فيها يا خضر الخاطئ أين كان قلبك ساعة غرستها حتى فرغت قلبك لغرسها أين كانت فكرتك عن الآخرة أليس قد خلا قلبك عن ذكر الآخرة بذكر الدنيا ساعة وإن الساعة في ذكر الآخرة لبلاغا للعاقلين يا خضر قد ابتليت بالدعاء لك من عبودة الرحمن
قال وذلك أن الخضر كان له موضع معلوم على بعض شواطئ البحر فإذا خرج الخضر إلى البر عبد الله تعالى فيه
قال فغرس في ذلك الموضع شجرة يعبد الله تعالى في ظل أغصانها إذا اشتهى العبادة فيها استتر بها في عبادته فعلم الله منه حب الدنيا بقدر ما اشتهى من تنزهه بها وإن كان ذلك في طاعته عاقبه الله تعالى بذلك السائل حتى صارت عبادته في عبودة عبد من عباد الله ولم يدر الخضر أنه ابتلي بذنب حتى سمع ما سمع من العابد القائم على ظهر الماء وكان اسمه سادون بن اشى فلما سمع الخضر بذلك خر ساجدا وهو يقول يا رب ما طلبت بذلك إلا وجهك ورضاك فنودي يا خضر آثرت الدنيا على الآخرة وفرغت قلبك لحبها دون حب الآخرة وعزتي ما لي في حبها رضاء ولا أكرم من أحبها ولو كان لي في حبها رضاء لخصصت بها أوليائي ولكن أزويها عنهم لهوانها علي وكرامتهم لدي أذهب فلا مرغب لي فيمن رغب في الدنيا وأمكنها من قلبه فلولا ما أدركك من دعاء سادون لأنزلت عليك بوائقي ولتتابعت عليك عقوباتي
قال وذلك أن سادون طلبه في مكانه الذي كان يسكن فيه أن يراه فلم يره في مقعده ولم يجده فدعا الله أن يدله على الخضر ويعلمه مكانه وكان يعرف الخضر والخضر لا يعرفه
قال فأري أن الخضر أحب الدنيا وزهرتها وعوقب بعقوبة كذا
وكذا فوقف بين يدي الله قائما على الماء شاخصا ببصره إلى السماء وهو يقول يا رب إن أنت أهنت عبدك الخضر بعد كرامته فمن يكرمه يا رب ارتكب عظيما وحمل ثقيلا وخان نفسه ونسي العهد يا من لا ينسى كل ما كان ويكون من أمر عباده أذكر عند ذنوب الخضر ما مننت به عليه من أنواع طاعتك وعظيم عبادته إياك يا من ناصية الخضر بيده يا من ليس له حراك نفس ولا عصمتها ولا طرفة عين إلا بأمرك ومشيئتك وقدرتك يا رب فاغفر له ما قدرت عليه من معصيتك وقدر عليه طاعتك فإنها تذهب معصيتك يا رب فاستجاب الله له وخلص الخضر مما كان ابتلي به من العقوبة
قال فرفع الخضر رأسه وأتى من ساعته سادون وهو يقول يا سادون الممنون علي بمنة الله وجلاله أين عرفتني ولم أعرفك يا أخي فقال له سادون يا خضر إن قلوب أولياء الله زاهرة نائرة لها شعاع كشعاع الشمس تطلع على قلوب أولياء الله ألا ترى إلى الشمس ما أعظم قدرها وأكثر ضوءها فلو غشيتها الظلمة القليلة لأذهبت بأكثر ضوئها وكذلك قلب ولي الله صاف طاهر فلو غشيه حب الدنيا بقدر ذرة لأكدر ضوءها ولأضعف شعاعها فإذا خلص القلب من حب الدنيا تراه ينظر إلى أولياء الله في مظانهم وقد عرفك قلبي فو الله لو كان قلبك للدنيا مثل قلبي لعرفني قلبك كما عرفك قلبي فقال له الخضر يا سادون وكيف قلبك للدنيا
قال بلغ من بغض الدنيا ما لو أن الله تعالى عرض علي الدنيا والجنة لأبيت قبولهما ولست أريد الجنة مع ما أبغضها الله وذلك أني أؤثر رضاء الله على رضائي فإن رضاء الله ترك الدنيا ورضائي دخول الجنة ولو أن الله خيرني بين أن أبقى في الدنيا ونعيمها خالدا مخلدا أبدا لا أموت فيها وبين أن يقبضني ويدخلني النار الساعة لاخترت أن يقبضني ويدخلني النار الساعة وذلك أني أؤثر سخطي على سخط الله تعالى وأن
حب الدنيا سخط الله ودخول النار سخطي أفتجد ذلك في قلبك يا خضر قال لا
قال لو كان ذلك في قلبك لكان يراني قلبك اذهب فليكن أكثر عبادتك بعض ما أبغض الله وهي الدنيا ليس حب الدنيا بجمع أموالها وشهواتها وزهرتها ولكن حب الدنيا أن يشغل قلبك عن حب الآخرة ولو طرفة عين أبغضها بغضا لا يكونن شيء أبغض إليك منها فإنك لا تطيق أن تحب الآخرة إلا على قدر ما تبغض الدنيا فقال يا سادون ادع الله تعالى أن يتوب علي بما ارتكبت فإني استحيي من ربي أن أدعوه فقد حاربته مع عدوه فقال سادون يا رب قدرت على عبدك الذنب فارتكب من الذنب ما ارتكب وما كان أهلا لذلك وهو عدل منك يا رب ثم قدرت له الخلاص من عقوبتك يا رب وألهمته طلب التوبة من ذنوبه يا رب فتب عليه فقد عرف ذنبه توبة مصر غير عائد يا رب إن الخضر سألني أن أدعوك فقد دعوتك مدلا عليك بما وعدتني من حسن إجابتك في أوليائك
فنودي مر الخضر أن يزهد في الدنيا فإذا زهد في الدنيا اشتاق إلي ومن اشتاق إلي اشتقت إليه ولا أشتاق إلى من لا أريد مغفرته ولم أرض عنه فأخبره سادون فزهد بعد ذلك الخضر زهدا لم يزهد أحد مثله وكان سادون رجلا ملاحا فكان ذات ليلة نائما على شط البحر إذ خرجت سمكتان فوقعتا حذاءه فسكت عنهما سادون رجاء أن يخرجا إلى البر فيأخذهما فنادته إحداهما يا سادون أبلغ حبك الدنيا أن تطمع في برها وبحرها والله إنك طمعت أن تصطاد من هو أعبد إلى الله منك فنادتها صاحبتها يا هذه أتمنين على سادون بعبادتك ولم تؤد شكر نعمة أنعمها الله عليك فقلت من أنتما فقالت الأخيرة أما التي نادتك بالكلام الأول منت على الله فمسخها الله الآن فها هي ذي ممسوخة خرساء وأما أنا فمن جنس السمك الذي كان يونس بن متى عليه
السلام في بطنها فقال سادون كيف خصها الله بيونس عليه السلام من بين دواب البحر قالت كانت تعبد الله في البحر بزهدها قال فكيف كان زهدها قالت كانت لا تبرح فإن أوتيت صيدا عفوا أكلته وإلا صبرت فكانت دواب البحر تسميها السمكة الزاهدة فأكرمها الله بنبيه ورسوله عليه السلام إكراما لها بزهدها فزهد سادون في مكانه زهدا وأخلص لله عبادته فقام من ساعته فمر على الماء فلما توسط البحر وقف فلم يزل إلى أن صار إلى الخضر يعبد الله ويدعوه
قال أبو عبد الله فنور هذه الكلمة بلغ هذا المبلغ فإنما بلغ بصدق القائل ولو كان غير الصدق لكان المنافق قد قاله واليهود والنصارى قد قالوها فأصدقهم في المقال أعظمهم نورا والصدق في المقال إنما يظهر من العبد ببذل النفس لله وإيثاره ربه على نفسه في كل مشيئة وإرادة وشهوة فإذا آثر الله فقد صدق الله في إرادته ربه ورفض نفسه فالنبي بفضل نبوته أراد الله إرادة بزيادة الحياة التي في قلبه والصديق هو دون النبي والشهيد دونهما وهو أقل حياة من الصديق والصديق أقل حياة من النبي والصالح أقل حياة من الشهيد ومن حيى بالله نال نور اليقين فهؤلاء الأصناف على درجاتهم على ما وصفنا في الحياة بالله واليقين به فأوفرهم حظا من الحياة واليقين أشدهم شوقا إليه وإرادة له وإيثارا له على شهوات نفسه فالنبي رأس الشهداء ثم الصديق من بعده ثم القتيل في سبيل الله ثم من بعد ذلك من هذه الأصناف التي ذكرها في الحديث وأصناف آخرون مذكورون في غير هذا الحديث وإنما قال في هذا الحديث الشهادة سبع ولم يقل ولا يكون شهيدا من وراء السبع إنما ذكر السبع في ذلك الموطن ثم ذكر بعد ذلك أن الغريب إذ مات فهو شهيد ومن مات مرابطا فهو شهيد ومن خرج في طلب العلم فمات فهو شهيد ومن دام على الطهارة متوضئا فهو شهيد ومن مات في يوم الجمعة فهو شهيد
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} موت الغربة شهادة
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقاه الله فتنة القبر
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمثله وزاد فيه وغذي وريح عليه من الجنة أي يرزقه تعالى
فأما تفسير الشهادة فإنه روي في الخبر أن الله تبارك وتعالى اسمه لما خلق الموت فزعت الملائكة منه وعظم شأنه عندهم فقالوا من يقوم لهذا فقال تعالى فيما روي عنه إن لي عبادا يتمنونه حبا للقائي يتجرعون مرارته ويهون ذلك عليهم اشتياقا إلي ويرفضون الحياة الدنيا طالبين لي فعجبت الملائكة من شأن هؤلاء العبيد وحنت إلى رؤيتهم قال فعرضت تلك الأرواح عليهم يومئذ فمن شهد ذلك العرض يومئذ أثبت اسمه وسمي شهيدا أي شهداء العرض وكان من أهل هذه الصفة فإذا خرج الروح منه صار إلى ذلك المعرض وكان من الأحياء المرزوقين فلما صارت تلك الأرواح إلى الأجساد في الدنيا كانت
قلوبهم حية بالله على الصفة التي وصفنا بدءا فمنهم الصديقون أولياء الله يتمنون الموت لحب الله قال الله تعالى في تنزيله حين ادعت اليهود ولايته فقال قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ثم قال ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم
ثم هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم في الحديث هم في الغيب في ذلك العرض قد اثبتت أسماؤهم في الشهداء لذلك المحل والعرض فوفق الله لهم هذه الأحوال فمن غرق فأخذ الماء بنفسه كانت موتته موتة وحية أي سريعة بلا لبث فبذل نفسه لما أيس من الحياة واختار لقاء الله وكذلك صاحب الحريق وصاحب الهدم والنفساء بجمع إذا نشب الولد في البطن ايست من الحياة وآثرت لقاء الله وكذلك المطعون
وسئل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن الطاعون فقال وخز أعدائكم من الجن فذاك قتيل الجن يائس صاحبه من الحياة فكذلك المبطون وصاحب ذات الجنب وهو صاحب السل قد أيسا من الحياة لأن قوة الحياة قد ذهبت من المبطون والمسلول وقد أحست نفوسهما بالموت وكذلك الغريب إذا أشرف على الموت فلم ير أهله وولده ولا أحبابه تمنى الموت وبذل نفسه لأن هؤلاء إذا كانوا بالحضرة اشتد على النفس فراقهم فأحبوا الحياة ففي هذا نقصان ولذلك تعوذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال أعوذ بك من حب العيش عند حضرة الموت فإذا أحب أن يعيش في ذلك الوقت الذي دعاه الله إليه فتلكأ وتردد فذاك عيب ونقص فأصحاب الفرش في هذا العيب لا يتمنون الموت إذا حضر لحب العيش
وفتنة قلوبهم بالأهل والولد وحطام الدنيا فذاك نقص وعيب
ولذلك قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الشهداء أمناء الله قتلوا أو ماتوا على فرشهم
عن راشد بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ليس كل قتيل شهيدا رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته
فمات رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو رأس الشهداء ثم من بعده أبو بكر رضي الله عنه كذلك فإنهم صاروا شهداء بأنهم أمناء الله جعل الله أرواحهم وأجسادهم عارية فيقبضهم عند نفاد آجالهم فكانوا في أيام الحياة يعدونها عارية وكانت أعينهم مادة إلى الدعوة متى يدعون فيستجيبون بلا تلكؤ ولا تردد فمن أحب العيش في الدنيا ولم يكن له حب لقاء الله فحضره الموت تلكأ وتردد في بذل الروح فخرج من أن يكون من أمناء الله تعالى وكذلك وضع فيما بين العباد لو أن رجلا أعطي شيئا عارية أو أودع وديعة ثم استردها صاحبها فتلكأ هذا في ردها على مالكها فقد خان وضيع الأمانة فإنما يؤخذ منه بعد ذلك قهرا
فأمناء الله هم الذين أرواحهم عندهم عارية بأمانة الله فهم يتمنون الموت حبا للقاء الله تعالى فإذا جاءهم الموت تجرعوا مرارته حبا للقائه ولم يتلكأوا في رد العواري فلذلك صاروا أمناء الله وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هم الشهداء لأنهم كانوا يومئذ شهدوا ذلك العرض واليوم حين خرجت منهم الأرواح صارت إلى المحل فشهدوا القربة فهم شهود عند الله في القربة أحياء
فهذا يحقق ما قلنا بدءا فقد صير في حديثه القتيل والذين ماتوا على فرشهم بمنزلة وسماهم شهداء يعلمك أن الشهادة ليست على القتل حدثت إنما اسم الشهادة لزمهم لما وصفنا والكرامة نالوها من أجل أنهم رفضوا الحياة وآثروا لقاء الله وأرادوه فأرادهم وكذلك الذي لا يزال على وضوء أيام الدنيا لأن الله تبارك وتعالى قال وأنزلنا من السماء ماء طهورا أي فعولا للطهر لنحيي به بلدة ميتا
فالأرض تحيا بذلك الماء وتنبت والآدمي خلق من الأرض فإذا أذنب مات قلبه عن الله على قدر ذنبه فإذا توضأ كان ذلك الماء الذي أنزله طهورا يطهرجوارحه ويزيل عنه المعاصي فيعود القلب إلى الحياة التي كانت فإذا دام وضوؤه وتتابع كانت حياة قلبه دائمة فإذا دامت حياة قلبه تمنى الموت ولذلك قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في حديثه لأنس إن حفظت وصيتي فلا يكون شيء أحب إليك من الموت
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذكر عنده الشهداء فقال إن أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش ورب قتيل بين صفين الله أعلم بنيته
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليس من أحد إلا وله كرائم من ماله يأبى بهم الذبح فإن لله تعالى خلقا من خلقه يأبى بهم الذبح أقوام يجعل موتهم على فرشهم ويقسم لهم أجور الشهداء
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لله أضنن بدم عبده المؤمن من أحدكم بكريمة ماله حتى يقبضه على فرشه
فهذه صفة عبد مؤمن قد اطمأنت نفسه إلى ربه ولها عن الدنيا وأحوال النفس وأناب قلبه إلى ربه وجاد بنفسه على ربه يقبل أحكامه وأقضيته على نفسه قبول مهتش مشتاق إلى لقاء محب له بكل قلبه فكما جاد بنفسه على ربه ضن به ربه عن أحوال البلاء ولم يدفعه إلى تلك الأحوال فلذلك يأبى به عن القتل في سبيله حتى يقبضه على فرشه فيقسم له أجر الشهداء لأن الشهيد إنما بذل نفسه ساعة من نهار حتى قتل فهذا بذل نفسه في جميع عمره فالله يضن بدمه كما يضن أحدنا بنجيبته فإن النجيبة من كرائم ماله فلا تسخو نفسه أن يذبحها فكذلك ربنا يضن به عن البلاء أن يعرض نفسه للبلاء ولذلك قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في حديث عن حوشب قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن لله ضنائن
وفي رواية إن لله عبادا يصونهم عن الأمراض والأسقام يحييهم في عافية ويميتهم في عافية فيدخلهم الجنة في عافية قال له قائل فأين قول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون قال هذا إذا ابتلاهم فمن ابتلي من الأنبياء فهو أشد الناس بلاء
ألا ترى إلى قول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حيث دخلوا عليه وبه حمى قال أبو سعيد رضي الله عنه فما كادت يدي تقار من شدة الحر حين وضعت يدي عليه فقلت له يا رسول الله ما أشد حماك قال إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم وإن أشد الناس بلاء الأنبياء
فهذا إذا ابتلي فهو أشد الناس بلاء والذي قلنا باب آخر إنما ذلك في التتابع والتواتر فكثير من الأنبياء تتابعت عليهم وتواترت حتى قتلوا بأنواع القتل وأما الخواص من الأنبياء فقد عوفوا منهم إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام إنما ابتلي ببلية من البلوى ثم لم يزل معافا وإسماعيل وإسحاق وموسى وهارون ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين فقد عرضوا للبلاء ثم رفع عنهم ولم يبتلهم فيشملهم البلاء إنما البلاء لمثل أيوب عليه السلام ومثل يحيى بن زكريا عليهما السلام حيث قتل صبرا ولزكرياء عليه السلام حيث نشر بالمنشار في الشجر ومثل جرجيس وأشباهه عليه السلام
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إن لله ضنائن من خلقه تغذوهم رحمته محياهم في عافية ومماتهم إذا توفاهم الله إلى جنته أولئك الذين تمر عليهم الفتن كمثل قطع الليل المظلم وهم منها في عافية والله أعلم
الأصل الحادي والتسعون والمائتان
في أن القلب الحقيقي في أثقال العظمة يتحمل بالمزاج
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول ليس من اللهو إلا ثلاثة تأديب الرجل فرسه وملاعبته امرأته ورميه بقوسه ونبله
وفي رواية عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أيضا قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كل لهو المؤمن باطل إلا ثلاثا فانهن حق رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته
قال أبو عبد الله رضي الله عنه فاللهو ما يلهي قلب المؤمن عن الله تعالى وهو كله مذموم إلا في هذه الثلاثة الأنواع لأن في هذه الثلاثة
عونا على الدين وقواما له يرمي بقوسه لئلا تذهب عادته للرمي ولا يتشنج أعضاؤه ومفاصله وكتفاه ويؤدب فرسه لئلا يجمح ولا يكون مستوليا على النزع منه والفروسية لئلا ينقطع عنه شجاعته ويكون جريئا ذا قلب فإذا ترك ذلك ضعف قلبه وجبن وملاعبته أهله ليسكن ما به وبها وهذا كله وإن كان ملهيا فهو في الأصل حق وإنما رخص للمؤمن في التلهي بهذا لأن قلبه في أثقال العظمة فإذا دام عليه ضاق به والتمس تفرجا وتخفيفا فيلجأ إلى هذه الأشياء التي هي في الأصل حق حتى يكون مزاجا للمؤمن
ألا يرى أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما أسري به فانتهى إلى السدرة وغشيها ما غشيها قال رأيت نورا ثم حال دونه فراش من ذهب وأخذني كالثبات فذاك مزاج له ليتحمل رؤية ذلك النور كأنه لم يقدر على احتمال ذلك النور حتى مازجه بذلك الفراش فأطاق احتماله
كذلك المؤمن البالغ إذا تراكمت على قلبه أثقال العظمة التمس متنفسا ليقوى على احتمالها فصير رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في حديثه هذا اللهو الملهي لقلبه حقا وتخفيفا عنه فإنما صارت هذه الأشياء ملهية لأن الرجل إذا رمى عن قوسه توخى بقلبه تسديد السهم وإصابته للهدف فهو يجتهد في علم ذلك ووضعه يده حيث وضع ففي ذلك مشغلة تلهي قلبه ولا يخلو من ذلك وفي إصابته حيث وضع شفاء للنفس وقوة للقلب فسمي لهوا لأنه يلهيه وذلك اللهو حق وكذلك تأديبه الفرس حتى لا يحرن ولا يجمح ويفهم شأن العنان ويتعلم السير والوثبان والوقوف والاستدارة وفي ذلك مشغلة تلهيه وذلك حق وكذلك ملاعبته امرأته يريد بذلك تسكينها وعفتها عن الرجال ففي ذلك ما يهيج عليه من الشهوة ويلهيه
ففي هذه الأشياء تفرج وخفة عن أثقال العظمة على قلب المؤمن فيكون مزاجا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
هذا آخر كتاب نوادر الأصول في أحاديث الرسول {صلى الله عليه وسلم} والحمد لله على توفيق إتمامه والصلاة والسلام على نبيه وحبيبه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله الطاهرين وأصحابه أجمعين تم